فَالْمُرَادُ لَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا تَعَلَّمَ مِنَ النَّبِيِّ مَا يُحَقِّقُهُ بِإِرْشَادِ الْكِتَابِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ بِتَوَسُّطِ الْمَلَكِ أَنَّ لَهُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ فَائِضَ الْجُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، [ (وَكُتُبِهِ) ] أَيْ: وَنَعْتَقِدُ بِوُجُودِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ تَفْصِيلًا فِيمَا عُلِمَ يَقِينًا كَالْقُرْآنِ، وَالتَّوْرَاةِ، وَالزَّبُورِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَإِجْمَالًا فِيمَا عَدَاهُ، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَلَا تَحْرِيفٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] . وَأَمَّا كَوْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ. قِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، مِنْهَا عَشْرُ صَحَائِفَ نَزَلَتْ عَلَى آدَمَ وَخَمْسُونَ عَلَى شِيثَ، وَثَلَاثُونَ عَلَى إِدْرِيسَ، وَعَشَرَةٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَأَفْضَلُهَا الْقُرْآنُ، [ (وَرُسُلِهِ) ] بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَتُؤْمِنَ بِوُجُودِهِمْ فِيمَنْ عُلِمَ بِنَصٍّ، أَوْ تَوَاتَرَ تَفْصِيلًا، وَفِي غَيْرِهِمْ إِجْمَالًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَرَادُفِ الرَّسُولِ، وَالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَجِبُ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: (مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» ) اهـ.
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّغَايُرِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ إِنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالرَّسُولَ مَنْ أُمِرَ بِهِ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسَ، فَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ لَا تَبْلِيغَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مَنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: ٧٨] لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ التَّفْصِيلُ، وَالثَّابِتَ هُوَ الْإِجْمَالُ، أَوِ النَّفْيُ مُقَيِّدٌ بِالْوَحْيِ الْجَلِيِّ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ مَا بَعْدَ الرُّسُلِ، وَمَا قَبْلَهُمْ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: التَّنْبِيهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ الْمَلَكَ بِالْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ لِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، أَوِ الْمَعَادِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ، وَالشَّرَّ يَجْرِيَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى مَا قَدَّرَهُ، وَقَضَاهُ، وَأَرَادَهُ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ لَا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنَ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ، وَلَا مِنَ الْكُتُبِ إِذْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ عَالِمِ التَّكْلِيفِ، وَالْوَسَائِطِ، وَإِلَّا فَمَا قَامَ لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، مَعْلُومٌ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمْكِينِهِ فِي وَقْتِ كُشُوفِ الْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ الْوَحْدَةِ حَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ أَثَرُ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْكَوْنَيْنِ، وَهَذَا مَحَلُّ اسْتِقَامَتِهِ فِي مَشْهَدِ التَّمْكِينِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: ٩] وَلَيْسَ هُنَاكَ مَقَامُ جِبْرِيلَ، وَجَمِيعِ الْكَرُوبِيِّينَ، وَلَا مَقَامُ الصَّفِيِّ، وَالْخَلِيلِ، وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ كَذَلِكَ لَكِنْ يَرُدُّهُ اللَّهُ إِلَى تَأْدِيبِ أُمَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ التَّلْوِينِ، وَلَا يَذُوبَ فِي أَنْوَارِ كِبْرِيَاءِ الْأَزَلِ، [ (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ] أَيْ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْأَحْسَنُ لِيَشْمَلَ أَحْوَالَ الْبَرْزَخِ فَإِنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أُخِّرَ عَنْهُ الْحِسَابُ، وَالْجَزَاءُ، وَقِيلَ هُوَ الْأَبَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِوُجُودِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَالْبَعْثِ الْآخِرِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، أَوْ لِإِفَادَةِ تَعَدُّدِهِ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَوْ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالثَّانِي الْبَعْثُ مِنْ بُطُونِ الْقُبُورِ إِلَى مَحَلِّ الْحَشْرِ، وَالنُّشُورِ. وَفِي أُخْرَى لَهُ: وَبِلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، فَاللِّقَاءُ الِانْتِقَالُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، وَالْبَعْثُ بَعْثُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حِسَابٍ، وَمِيزَانٍ، وَجَنَّةٍ، وَنَارٍ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: اللِّقَاءُ الْحِسَابُ، وَقِيلَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ [ (وَتُؤْمِنَ) ] ، أَيْ: وَأَنْ تُؤْمِنَ [ (بِالْقَدَرِ) ] : بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَيُسَكَّنُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَقَضَاهُ، وَإِعَادَةُ الْعَامِلِ إِمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute