لِبُعْدِ الْعَهْدِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانِيُّ أَنَّنِي ... إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا
أَوْ لِشَرَفِ قَدْرِهِ، وَتَعَاظُمِ أَمْرِهِ وَقَعَ فِيهِ الِاهْتِمَامُ لِأَنَّهُ مَحَارُ الْأَفْهَامِ، وَمَزَالُّ الْأَقْدَامِ، وَقَدْ عَلِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الْأُمَّةَ سَيَخُوضُونَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّقُونَهُ فَاهْتَمَّ بِشَأْنِهِ، ثُمَّ قَرَّرَهُ بِالْإِبْدَالِ بِقَوْلِهِ: [ (خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ) ] أَيْ: نَفْعِهِ، وَضُرِّهِ، وَزِيدَ فِي رِوَايَةٍ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، فَإِنَّ الْبَدَلَ تَوْضِيحٌ مَعَ التَّوْكِيدِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْمِيمِ لِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَعِنْدِي أَنَّ إِعَادَةَ الْعَامِلِ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ بِهِ دُونَ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ كَفَرَ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، وَالتَّكْمِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ بَدَلُ بَعْضٍ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ الْكُلِّ، وَالرَّابِطَةُ بَعْدَ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى تَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ، وَالشَّرَّ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلَائِقِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ مُرْتَبِطٌ بِقَدَرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: ٧٨] وَهُوَ مُرِيدٌ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: ١٢٥] فَالطَّاعَاتُ يُحِبُّهَا، وَيَرْضَاهَا بِخِلَافِ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: ٧] وَالْإِرَادَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا، ثُمَّ الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ بِنِظَامِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَرْتِيبٍ خَاصٍّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَالْقَدَرُ تُعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِالْأَشْيَاءِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَهُوَ تَفْصِيلُ قَضَائِهِ السَّابِقِ بِإِيجَادِهَا فِي الْمَوَادِّ الْجُزْئِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِلَوْحِ الْمَحْوِ، وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُسَمَّى الْكِتَابُ بِلَوْحِ الْقَضَاءِ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ بِلَوْحِ الْقَدَرِ فِي وَجْهِ هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِ الْقَاضِي. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالْقَضَاءَ هُوَ التَّفْصِيلُ، فَهُوَ أَخَصُّ، وَمَثَّلَ هَذَا بِأَنَّ الْقَدَرَ مَا أُعِدَّ لِلُّبْسِ، وَالْقَضَاءَ بِمَنْزِلَةِ اللُّبْسُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ. كَانَ فِي الْبَدْءِ عِلْمٌ، ثُمَّ ذِكْرٌ، ثُمَّ مَشِيئَةٌ، ثُمَّ تَدْبِيرٌ، ثُمَّ مَقَادِيرُ، ثُمَّ إِثْبَاتٌ فِي اللَّوْحِ، ثُمَّ إِرَادَةٌ، ثُمَّ قَضَاءٌ، فَإِذَا قَالَ: كُنْ فَكَانَ عَلَى الْهَيْئَةِ إِلَى عِلْمٍ فَذِكْرٍ، ثُمَّ شَاءَ فَدَبَّرَ، ثُمَّ قَدَّرَ، ثُمَّ أَثْبَتَ، ثُمَّ قَضَى، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ حَيْثُ اسْتَقَامَ فِي الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ إِلَى أَنِ اسْتَقَامَ فِي اللَّوْحِ، ثُمَّ اسْتَبَانَ إِلَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أُمُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الْقَدَرَ كَتَقْدِيرِ النَّقَّاشِ الصُّورَةَ فِي ذِهْنِهِ، وَالْقَضَاءَ كَرَسْمِهِ تِلْكَ الصُّورَةَ لِلتِّلْمِيذِ بِالْأُسْرُبِ، وَوَضْعُ التِّلْمِيذِ الصِّبْغَ عَلَيْهَا مُتَّبِعًا لِرَسْمِ الْأُسْتَاذِ هُوَ الْكَسْبُ، وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ رَسْمِ الْأُسْتَاذِ كَذَلِكَ الْعَبْدُ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ، وَلَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَالْقَدَرِيَّةُ فَسَّرُوا الْقَضَاءَ بِعِلْمِهِ بِنِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنْكَرُوا تَأْثِيرَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَيْرَهَا، وَشَرَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُرَادَةٌ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ مُكْتَسَبَةٌ لِلْعِبَادِ لِأَنَّ لَهُمْ نَوْعَ اخْتِيَارٍ فِي كَسْبِهَا، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَهَذَا أَوْسَطُ الْمَذَاهِبِ، وَأَعْدَلُهَا، وَأَوْفَقُهَا لِلنُّصُوصِ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَالصَّوَابُ خِلَافًا لِلْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِبَادَ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، إِذْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا تَكْلِيفَ، وَمَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِهَذَا اللَّازِمِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَلْبَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ أَصْلِهَا إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهَا أَحَدٌ بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ، وَخِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ النَّافِينَ لِلْقَدَرِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ، وَأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، وَأَنَّ إِرَادَتَهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا لِاسْتِقْلَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِالْإِيجَادِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي أَفْعَالِهِ، إِذْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى شُرَكَاءَ فِي مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ، فَمَنِ اعْتَقَدَ حَقِيقَةَ الشَّرِكَةِ قَصْدًا فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. رُوِيَ أَنَّهُ كَتَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِىُّ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ حَمَلَ ذَنْبَهُ عَلَى رَبِّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ اسْتِكْرَاهًا، وَلَا يُعْصَى بِغَلَبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِمَا مَلَّكَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute