كِفَاتِ الْإِنَاءِ أَيْ: غَيْرُ مَرْدُودٍ عَلَيْهِ إِنْعَامُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْفِيٍّ مِنْ عِنْدِنَا، بَلْ هُوَ الْكَافِي وَالرَّازِقُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِقِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُ مُكَافَأٍ بِالْهَمْزِ أَيْ نِعْمَةُ اللَّهِ لَا تُكَافَأُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِالْيَاءِ، وَلِكُلٍّ مَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَلَا مُوَدَّعٍ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ فَيُعْرَضُ عَنْهُ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْقَائِلِ أَيْ: غَيْرُ تَارِكٍ الْحَمْدَ، أَوْ تَارِكُ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) : إِذِ الرِّوَايَةُ فِيهِ لَيْسَتْ إِلَّا عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرَّسْمِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَطْرُوحٍ وَلَا مُعْرَضٍ عَنْهُ، بَلْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ " لَا " لَا عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قِيلَ وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّهُ، بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ تُسْتَمَدُّ مِنْ سَابِقِهِ نَصًّا وَهِيَ أَنَّهُ لَا اسْتِغْنَاءَ لِأَحَدٍ عَنِ الْحَمْدِ لِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةٍ، بَلْ نِعَمُهُ لَا تُحْصَى، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ وَاجِبٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَفْظًا يَأْثَمُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَمَنْ أَتَى بِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ، أَمَّا شُكْرُ الْمُنْعِمِ بِمَعْنَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ زَوَاجِرِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا.
وَقَوْلُهُ: (رَبُّنَا) : رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ رَبُّنَا أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " غَيْرُ " بِالرَّفْعِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِ شَمَائِلِهِ حَيْثُ قَالَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رَبُّنَا هَذَا، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ إِضْمَارِ أَعْنِي، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ شَمَائِلِهِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " عَنْهُ " وَاضِحُ الْفَسَادِ، إِذْ ضَمِيرُ عَنْهُ لِلْحَمْدِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ " عَنْهُ " لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَا فَسَادَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَصْلًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - بِلَفْظِ: " «كَانَ إِذَا رُفِعَتْ مَائِدَتُهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا، فِيهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبُّنَا» ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute