الْأَدَبُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي لَا حُرْمَةَ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: ١١٥] وَالْمَعْنَى تَرَكَ نِسْيَانًا (أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ " عَلَى الطَّعَامِ " أَيِ: الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُطْلَقَ الذِّكْرِ لِلَّهِ كَافٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ، وَلَكِنَّ الْبَسْمَلَةَ أَفْضَلُ، فَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، فَكَذَا فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ ; لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ آكَدُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهِمَا، وَقِيلَ بِكَوْنِهَا شَرْطًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأَكْلِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلًا (فَلْيَقُلْ) : أَيْ نَدْبًا (بِسْمِ اللَّهِ) : الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوِ الِاسْتِعَانَةِ (أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) : بِنَصْبِهِمَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْمَعْنَى الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّسْمِيَةُ، فَلَا يُقَالُ ذِكْرُهُمَا يُخْرِجُ الْوَسَطَ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ٦٢] مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: ٣٥] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَبِآخِرِهِ النِّصْفُ الثَّانِي، فَيَحْصُلُ الِاسْتِيفَاءُ وَالِاسْتِيعَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقِيلَ: نَصْبُهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَكَلْتُ أَوَّلَهُ وَآكُلُ آخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: آكُلُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْلَ أَوَّلِهِ لَيْسَ فِي زَمَانِ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينًا بِهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينٌ بِهِ حُكْمًا ; لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَثَنَاءَهُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ ; وَإِنْ لَمْ يَجْرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ لِنِسْيَانِهِ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نِسْيَانَ التَّسْمِيَةِ حَالَ الذَّبْحِ مَعْفُوٌّ مَعَ أَنَّهَا شَرْطٌ، فَكَيْفَ وَالتَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَكْلِ إِجْمَاعًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ كَلَامِ شَارِحٍ قَالَ: فَنَسِيَ أَوْ تَرَكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَإِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِخِلَافِ الْمُتَعَمِّدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: وَأَلْحَقَ بِهِ أَئِمَّتُنَا مَا إِذَا تَعَمَّدَ أَوْ جَهِلَ أَوْ أُكْرِهَ اهـ.
أَمَّا الْعَمْدُ ; فَقَدْ عَرَفْتَهُ، وَأَمَّا الْجَهْلُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ أَوَّلَ أَكْلِهِ جَهْلًا تَكُونُ التَّسْمِيَةُ سُنَّةً، فَلْيَقُلْ فِي أَثْنَائِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلَتِهِ، وَلَا يَخْفَى نُدْرَتُهُ مَعَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْجَهْلَ عُذْرٌ كَالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْعَمْدِ فَلَا يَسْتَوِيَانِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَأَشَدُّ مِنْهُمَا عُذْرًا، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَنْعُهُ عَنِ الْبَسْمَلَةِ إِلَّا جَهْرًا أَوْ نِسْيَانًا، فَحِينَئِذٍ يَكْتَفِي بِذِكْرِ اللَّهِ جَنَانًا. فَأَيْنَ هَذَا مِنَ التَّعَمُّدِ؟ وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَذَكَرَهَا فِي خِلَالِ الْوُضُوءِ فَسَمَّى لَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ، كَذَا فِي الْغَايَةِ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ فِي الْأَكْلِ تَحْصِيلُ السُّنَّةِ فِي الْبَاقِي لَا اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوْ سَمَّى بَعْدَ فَرَاغِ الْأَكْلِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالسُّنَّةِ، لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَشْمَلُهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّعَامِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيُمْنَعَ الشَّيْطَانُ، وَبِالْفَرَاغِ لَا يُمْنَعُ - مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ لِذَلِكَ فَحَسْبُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَيْضًا لِيَقِيءَ الشَّيْطَانُ مَا أَكَلَهُ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ أَيْضًا لَأَمَرَ مَنْ قَعَدَ لِلْأَكْلِ وَلَمْ يُسَمِّ سَابِقًا بِالتَّسْمِيَةِ لَاحِقًا، وَسَيَأْتِي التَّقْيِيدُ بِاللُّقْمَةِ الْبَاقِيَةِ لِلِاسْتِقْصَاءِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: " «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute