للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى مَا مَرَّ، وَإِظْهَارًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ لِيَتَأَلَّفَهُ لِقُرْبِ إِسْلَامِهِ وَحَمْلًا لِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ - وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَتُهُ - فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ، بَلْ لِأَصَاغِرِهِمْ. (فَجَاءَ بِلَالٌ) : هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَعْتَقَهُ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، مَاتَ بِدِمَشْقَ مِنْ غَيْرِ عَقِبٍ. (يُؤْذِنَهُ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدَّلُ أَيْ يُعْلِمَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَاهُ، لَكِنْ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْمُشَدَّدَ مُخْتَصٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (بِالصَّلَاةِ) ، يُفِيدُ التَّجْرِيدَ وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى قَوْلُهُ: (فَأَلْقَى) : أَيْ طَرْحَ وَرَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الشَّفْرَةَ فَقَالَ: مَا لَهُ) : أَيْ لِبِلَالٍ يُؤَذِّنُ فِي هَذَا الْوَقْتِ (تَرِبَتْ يَدَاهُ؟) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لُصِقَتْ بِالتُّرَابِ مِنْ شِدَّةِ الِافْتِقَارِ، وَهَى كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ اللَّوْمِ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالْفَقْرِ وَالْعَدَمِ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا وَلَا يُرِيدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ إِيذَانَهُ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالطَّعَامِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَّسِعٌ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ الْعَشَاءِ، فَإِنَّ التَّأْخِيرَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَالِ الضَّيْفِ، وَقِيلَ قِيَامُهُ كَانَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ، مَعْنَى تَرِبَتْ يَدَاهُ: لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَحْلَاهُ.

(قَالَ) : أَيِ الْمُغِيرَةُ وَفِي نُسْخَةٍ " فَقَالَ "، (وَكَانَ شَارِبُهُ) : أَيْ شَارِبُ الْمُغِيرَةِ (وَفَاءً) : أَيْ تَمَامًا يَنْحَطُّ كَبِيرًا طَوِيلًا، وَفِي رِوَايَةٍ: " وَكَانَ شَارِبُهُ قَدْ وَفَى " أَيْ طَالَ وَتَعَدَّى، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَشَارِبِي، فَوَضَعَ مَكَانَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْغَائِبَ إِمَّا تَجْرِيدًا أَوِ الْتِفَاتًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: قَالَ لِبِلَالٍ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ " فَقَالَ لَهُ "، (أَقُصُّهُ لَكَ) : أَيْ لِنَفْعِكَ أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِكَ مِنِّي، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " أَقُصُّهُ لَكَ " أَيْ لِأَجْلِكَ تَتَبَرَّكُ بِهِ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا تَكَلُّفَاتٍ لَا تُشْفِي الْغَلِيلَ، وَمِنْ تَرَدُّدِ الْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ يَعْنِي حَيْثُ قَالَ: " عَلَى سِوَاكٍ؟ - أَوْ - قُصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ) ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَلْتُ قَدْ «رَأَيْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا طَوِيلَ الشَّارِبِ، فَدَعَا بِسِوَاكٍ وَشَفْرَةٍ، فَوَضَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّوَاكَ تَحْتَ شَارِبِهِ، ثُمَّ جَزَّهُ» اهـ.

وَيُحْتَمَلُ جَزُّهُ بِالشَّفْرَةِ أَوْ بِمِقْرَاضٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكَّ مِنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَقُصَّهُ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَجُوِّزَ ضَمُّهُ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ: أَيْ قُصَّهُ أَنْتَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ فَقِيلَ هُوَ عَطْفٌ عَلَى " قَالَ " أَيْ قَالَ: " وَكَانَ شَارِبُهُ وَفَاءً " فَقَصَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى " قَالَ " فِي ضِمْنٍ، فَقَالَ أَيْ فَقَالَ: أَقُصُّهُ أَوْ فَقَصَّهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " وَكَانَ شَارِبِي وَفَى فَقَصَّهُ لِي عَلَى سِوَاكِهِ، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: " قَالَ: وَكَانَ شَارِبُهُ " لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُلَائِمُ وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيذَانِ وَرَمْيِ الشَّفْرَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يُزَيِّفُ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ ثَبَتَ كَوْنُ بِلَالٍ قَبْلَ الْإِيذَانِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي أَمْرِ الشَّارِبِ أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي إِحْفَائِهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا تَظْهَرُ لَهُ حُمْرَةُ الشَّفَةِ وَطَرْفِهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقِيلَ الْأَفْضَلُ حَلْقُهُ لِحَدِيثِ: " وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَصِّ "، بَلْ رَأَى مَالِكٌ تَأْدِيبَ الْحَالِقِ، وَمَا مَرَّ عَنِ النَّوَوِيِّ يُخَالِفُهُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ، أَنَّهُمَا كَانَا يُحْفِيَانِهِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ: الْإِحْفَاءُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُحْفِيهِ شَدِيدًا، وَرَأَى الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السِّبَالَيْنِ اتْبَاعًا لِعُمْرَ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ غِمْرُ الطَّعَامِ إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَكَرِهَ الزَّرْكَشِيُّ إِبْقَاءَهُ لِخَبَرٍ صَحِيحٍ لِابْنِ حِبَّانَ: «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَجُوسُ فَقَالَ: " إِنَّهُمْ قَوْمٌ يُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ، وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ فَخَالِفُوهُمْ» " اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّبَالِ الشَّوَارِبُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا مَذْكُورٌ فِي قِسْمِ الصِّحَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادِ التِّرْمِذِيِّ، فَالْحَدِيثُ مُلْحَقٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِهِ اهـ. وَهُوَ وَهْمٌ مِنَ الطِّيبِيِّ، فَإِنَّ الْفَصْلَ الثَّالِثَ كُلَّهُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَضْعُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصِّحَاحِ كَمَا لَا يَخْفَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>