للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

بِالْعُهُودِ، وَقَطْعُ الْعَلَائِقِ وَالشُّرَكَاءِ عَنْ شِرْكٍ، وَالْفَنَاءُ عَنْ مُشَاهَدَتِكَ فِي مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ، وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ رَهْبَةً مِنَ الْعِقَابِ وَرَغْبَةً فِي الثَّوَابِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعِبَادَةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ. أَوْ يَعْبُدَهُ تَشَوُّقًا لِعِبَادَتِهِ وَقَبُولَ تَكَالِيفِهِ، وَتُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ عَيْنُ الْيَقِينِ، أَوْ يَعْبُدَهُ لِكَوْنِهِ إِلَهًا وَكَوْنِهِ عَبْدًا، وَالْإِلَهِيَّةُ تُوجِبُ الْعُبُودِيَّةَ، وَتُسَمَّى بِالْعُبُودَةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الْيَقِينِ، وَالشِّرْكُ رُؤْيَةُ ضُرٍّ، أَوْ نَفْعٍ مِمَّا سِوَاهُ، وَإِثْبَاتُ وُجُودِ غَيْرِ اللَّهِ ذَاتًا، أَوْ صِفَةً، أَوْ فِعْلًا [ (كَأَنَّكَ تَرَاهُ) ] : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: عِبَادَةٌ شَبِيهَةٌ بِعِبَادَتِكَ حِينَ تَرَاهُ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُشَبَّهًا بِمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ خَوْفًا مِنْهُ وَحَيَاءً، وَخُضُوعًا، وَخُشُوعًا، وَأَدَبًا، وَصَفَاءً، وَوَفَاءً، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنْ قَامَ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي عِبَادَةِ الْعَبْدِ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَرَى مَنْ يَعْمَلُ لَهُ الْعَمَلَ يَعْمَلُ لَهُ أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْسِينَ لِرُؤْيَةِ الْمَعْمُولِ لَهُ الْعَامِلَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَامِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَعْمُولَ لَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ يَجْتَهِدُ فِي إِحْسَانِهِ الْعَمَلَ أَيْضًا، وَلِذَا قَالَ: [ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ) ] أَيْ: تُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ مَنْ تَرَاهُ [ (فَإِنَّهُ يَرَاكَ) ] أَيْ: فَعَامِلْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَرَاكَ، أَوْ فَأَحْسِنْ فِي عَمَلِكَ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَرَهُ أَيْ: بِأَنْ غَفَلْتَ عَنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُحَصِّلَةِ لِغَايَةِ الْكَمَالِ فَلَا تَغْفُلْ عَمَّا يَجْعَلُ لَكَ أَصْلَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ جُلُّهُ. بَلِ اسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ فَإِنَّهُ يَرَاكَ أَيْ: دَائِمًا، فَاسْتَحْضِرْ ذَلِكَ لِتَسْتَحْيِيَ مِنْهُ حَتَّى لَا تَغْفُلَ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ، وَلَا تُقَصِّرَ فِي إِحْسَانِ طَاعَتِهِ ; وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ مِثْلَ الرُّؤْيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَغْفُلْ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، فَالْفَاءُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَتَعْلِيلُ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ حَاصِلَةٌ. سَوَاءٌ رَآهُ الْعَبْدُ أَمْ لَا. بَلِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَكُنْ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَرَاكَ، وَهُوَ مُوهِمٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَاعْبُدْهُ كَأَنَّهُ يَرَاكَ كَمَا ظَنَّ فَإِنَّهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ اهـ.

وَأَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الطِّيبِيِّ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا مُتَحَقِّقَةٌ دَائِمًا حَالَةَ الْعِبَادَةِ، وَغَيْرِهَا، فَالتَّعْبِيرُ بِكَأَنَّهُ يَرَاكَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَوَهَمَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ أَيْ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَيَرَاكَ فَحَذَفَ الثَّانِيَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَلَطٌ قَبِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ يَرَاكَ ; وَحَاصِلُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْحَثُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، وَمُرَاقَبَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الْمُكَاشَفَةِ، وَمَعْنَاهُ إِخْلَاصُ الْعُبُودِيَّةِ، وَرُؤْيَةُ الْغَيْرِ بِنَعْتِ إِدْرَاكِ الْقَلْبِ عِيَانَ جَلَالِ ذَاتِ الْحَقِّ، وَفَنَائِهِ عَنِ الرُّسُومِ فِيهِ. وَالثَّانِي إِلَى مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْإِجْلَالِ، وَحُصُولِ الْحَيَاءِ مِنَ الْعِلْمِ بِاطِّلَاعِ ذِي الْجَلَالِ. قِيلَ: الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَنْ تَكُونَ فَانِيًا تَرَاهُ بَاقِيًا فَإِنَّهُ يَرَاكَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَزَوَالٍ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ بِالْأَلِفِ فَمَدْفُوعٌ بِحَمْلِهِ عَلَى لُغَةٍ، أَوْ عَلَى إِشْبَاعِ حَرَكَةٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَأٍ، وَهُوَ أَنْتَ، وَجَازَ حَذْفُ الْفَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ فِي حَالِ شُعُورِكَ بِوُجُودِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩] أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا فَنَيْتَ، وَمِتَّ مَوْتًا حَقِيقِيًّا تَرَاهُ رُؤْيَةً حَقِيقِيَّةً، وَتَرْتَفِعُ الْعِبَادَاتُ التَّكْلِيفِيَّةُ وَالتَّكَلُّفِيَّةُ، وَإِذَا مِتَّ مَوْتًا مَجَازِيًّا، وَدَخَلْتَ فِي حَالِ الْفَنَاءِ، وَبَقِيتَ فِي مَقَامِ الْبَقَاءِ تَرَاهُ رُؤْيَةَ مُشَاهَدَةٍ غَيْبِيَّةٍ تُسْقِطُ عَنْكَ ثِقَلَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ نَفْسَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرِيَّةِ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْجَذَبَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ مَا أَيْضًا بِاللَّاحِقِ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْتُ فِي الْمَقَامِ لِتَخْطِئَةِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَفِي بَعْضِهِا فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا ادَّعَى الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُؤَدَّى بِالْعِبَارَةِ، بَلْ ذَكَرَ مَعْنًى يُؤْخَذُ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ دَلِيلٌ لِمَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لَا تَقَعُ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ ( «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» ) قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لِأَنَّ الْبَصَرَ فِي الدُّنْيَا خُلِقَ لِلْفَنَاءِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَاقِي بِخِلَافِهِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا خُلِقَ لِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ قَوِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>