للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدَرَ عَلَى نَظَرِ الْبَاقِي سُبْحَانَهُ، فَرُؤْيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِعَيْنِ رَأْسِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا، وَنِزَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا وَقَدْ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ جِبْرِيلَ هُنَا أَيْضًا قَالَ: صَدَقْتَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرْهُ نِسْيَانًا، أَوِ اخْتِصَارًا، أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَذْكُورِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ السُّنَّةِ مَسْطُورٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هَاهُنَا صَدَقْتَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَلْسَلِ الرَّبَّانِيِّ: «الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِي أَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي» اهـ.

وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا هُوَ الْأَوْلَى (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ) أَيْ: عَنْ وَقْتِ قِيَامِهَا لِمَا فِي رِوَايَةِ: مَتَى السَّاعَةُ، لَا وُجُودُهَا؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَبَّرَ بِهَا عَنْهَا، وَإِنْ طَالَ زَمَنُهَا اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ زَمَانِهَا، فَإِنَّهَا تَقَعُ بَغْتَةً، أَوْ لِسُرْعَةِ حِسَابِهَا، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ لِطُولِهَا، أَوْ تَفَاؤُلًا كَالْمَفَازَةِ لِلْمَهْلَكَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ كَسَاعَةٍ عِنْدَ الْخَلْقِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ. وَالسَّاعَةُ لُغَةً مِقْدَارٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَعُرْفًا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قِيلَ: وَالسَّاعَةُ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْقِيَامَةِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْكُبْرَى تُطْلَقُ عَلَى مَوْتِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْوُسْطَى كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَصْغَرِهِمْ، ( «إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» ) إِذِ الْمُرَادُ انْقِضَاءُ عَصْرِهِمْ، وَلِذَا أَضَافَ إِلَيْهِمْ وَعَلَى الْمَوْتِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الصُّغْرَى، وَوَرَدَ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ. قَالَ: (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا. قِيلَ، حَقُّ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ لِيَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّامِ. أُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَمَا يُقَالُ سَأَلْتُ عَنْ زَيْدٍ الْمَسْأَلَةَ يُقَالُ سَأَلْتُهُ عَنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْأَكْثَرُ فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّامِ، وَالْمَجْرُورُ إِلَى السَّاعَةِ، وَمَا نَافِيةٌ أَيْ: لَيْسَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهَا. (بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) : نَفَى أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِأَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ - فِي أَمْرِ السَّاعَةِ - لِأَنَّهَا مِنْ مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) . قِيلَ أَيْ: عَنْ ذَاتِي مُبَالِغَةً عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ يَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، فَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعْلَمِيَّةِ نَفْيُ أَصْلِ الْعِلْمِ عَنْهَا مَعَ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَمَسَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: لَسْتُ أَعْلَمَ بِعِلْمِ السَّاعَةِ مِنْكَ لَكِنَّهُ عَدَلَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ سَائِلٍ وَمَسْئُولٍ سِيَّانِ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. قِيلَ: وَمَا أَفْهَمَهُ مِنْ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَيْرُ الْمُرَادِ فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَعْلَمَانِهِ مِنْهُ، وَهُوَ نَفْسُ وُجُودِهَا، وَهَذَا وَقَعَ بَيْنَ عِيسَى وَجِبْرِيلَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ عِيسَى كَانَ سَائِلًا وَجِبْرِيلُ مَسْئُولًا فَانْتَفَضَ بِأَجْنِحَتِهِ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ.

فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ سَأَلَ جِبْرِيلُ عَنِ السَّاعَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْآيَةِ، وَبَيْنَ مَا اشْتُهِرَ عَنِ الْعُرَفَاءِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَيْبِيَّةِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ يُنْقَلُ فِي الْأَحْوَالِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى نَعْتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَيَعْلَمَ الْغَيْبَ، وَتُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ، وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ ; فَالْجَوَابُ: أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَلِتَنْبِيهِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْجَوَابُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَلَا الِاسْتِنْكَافُ مِنْ قَوْلِ لَا أَدْرِي الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْعِلْمِ كَمَا نَبَّهَهُمْ مِمَّا لَهُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِمَّا قَدْ سَلَفَ بِحُسْنِ السُّؤَالِ الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْعِلْمِ فَتَمَّ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي فَلِأَنَّ لِلْغَيْبِ مَبَادِئَ وَلَوَاحِقَ، فَمَبَادِئُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا اللَّوَاحِقُ، فَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ عَلَى بَعْضِ أَحِبَّائِهِ لَوْحَةَ عِلْمِهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَنِ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ، وَصَارَ غَيْبًا إِضَافِيًّا، وَذَلِكَ إِذْ تَنَوَّرَ الرُّوحُ الْقُدُسِيَّةُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>