٤٤٨٨ - وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ: مَا هَذَا؟ قَالَ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. رَوَاهُ مَالِكٌ.
ــ
٤٤٨٨ - (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَخَلْقًا سِوَاهُمَا، وَرَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمْ، كَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، عَالِمًا مُتَوَرِّعًا صَالِحًا زَاهِدًا مَشْهُورًا بِالثِّقَةِ وَالدِّينِ. (أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - أَوَّلَ النَّاسِ ضَيَّفَ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَضَافَ الضَّيْفَ وَهُوَ خَبَرُ كَانَ، وَ (أَوَّلَ النَّاسِ) ظَرْفٌ لَهُ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ (أَوَّلَ النَّاسِ) خَبَرُ كَانَ، وَ (ضَيَّفَ) يَكُونُ مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ وَقَعَ تَمْيِيزًا. أَيْ أَوَّلَ تَضْيِيفًا. وَضَيَّفَ الضَّيْفَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤَوَّلُ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَيَضِلُّ الضَّالَّةُ فَسُمِّي الْمُشَارِفُ لِلضَّيْفِ وَالْمَرَضِ وَالضَّلَالِ ضَيْفًا وَمَرِيضًا ضَالَّةً، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَيَّفَ هُنَا بِمَعْنَى أَطْعَمَ الضَّيْفَ وَأَكْرَمَهُمْ فَفِيهِ نَوْعُ تَجْرِيدٍ.
(وَأَوَّلَ النَّاسِ اخْتَتَنَ) : لِأَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يُولَدُونَ مَخْتُونِينَ، وَلَمْ يَكُنْ سَائِرُ النَّاسِ بِالْخِتَانِ مَأْمُورِينَ، وَلَمَّا اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَارَ سُنَّةً لِجَمِيعِ الْأَنَامِ إِلَّا مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا لِحُصُولِ الْمَرَامِ. (وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا طَالَ إِلَّا لَهُ، أَوْ مَا كَانَ الْأُمَمُ مُتَعَبِّدِينَ بِهِ، وَمُمْكِنٌ أَنْ يُحْمَلَ قَصُّهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ وَتَبِعَهُ مَنْ بَعْدَهُ. (وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى شَيْبًا) : أَيْ بَيَاضًا فِي لِحْيَتِهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَيُشْعِرُ بِهِ السُّؤَالُ (فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟) : أَيِ الشَّيْبُ يَعْنِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّغْيِيرِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْدِيرِ؟ (قَالَ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ) : أَيْ هَذَا وَقَارٌ أَيْ سَبَبُهُ، وَالْوَقَارُ رَزَانَةُ الْعَقْلِ، وَالتَّأَنِّي فِي الْعَمَلِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَالْحِلْمُ وَالْعَفْوُ وَسَائِرُ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَ الشَّيْبُ وَقَارًا لِأَنَّ زَمَانَ الشَّيْبِ أَوَانُ رَزَانَةِ النَّفْسِ وَالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. قَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: ١٣] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكَمَ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةً ; لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ حَالُ اسْتِقْرَارِ الْأُمُورِ وَثَبَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. مِنْ وَقَرَ إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. (قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا) : وَفِي الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: " رَبِّ زِدْنِي شَيْبًا " نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لَا تَخْفَى، وَلِهَذَا زَادَ اللَّهُ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَارًا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْهُ شَيْبًا لِمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ مَالِكٌ) : أَيْ مُرْسَلًا وَتَرَكَهُ لِظُهُورِهِ ; لِأَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلُ مَنْ قَصَّ أَظَافِيرَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ فَرَقَ أَيْ شَعْرَ الرَّأْسِ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلُ مَنْ تَسَرْوَلَ، وَأَوَّلُ مَنْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَتَّبَ الْعَسْكَرَ فِي الْحَرْبِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَمُقَدِّمَةً وَمُؤَخِّرَةً وَقَلْبًا، وَأَوَّلُ مَنْ عَانَقَ، وَأَوَّلُ مَنْ ثَرَدَ الثَّرِيدَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute