للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

٤٦٠٠ - عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. فَسَمِعَهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا، بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ " وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَّفَهَا، وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ " فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ. فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ. فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فَيَصْدُقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

٤٦٠٠ - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ) أَيْ: قَدَّرَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ قَضَاءً (فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا) أَيْ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (خُضْعَانًا) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: تَوَاضُعًا وَتَخَاشُعًا (لِقَوْلِهِ) : وَانْقِيَادًا لِحُكْمِهِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْخُضْعَانُ مَصْدَرُ خَضَعَ يَخْضَعُ خُضُوعًا وَخُضْعَانًا، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالْمُطَاوَعَةُ كَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، وَيُرْوَى بِالْكَسْرِ كَالْوِجْدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ خَاضِعٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا كَانَ جَمْعًا كَانَ حَالًا، وَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِمَا فِي ضَرْبِ الْأَجْنِحَةِ مِنْ مَعْنَى الْخُضُوعِ، أَوْ مَفْعُولًا لَهُ. قُلْتُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِرَ إِذَا اسْتَشْعَرَ خَوْفًا أَرْخَى جَنَاحَيْهِ مُرْتَعِدًا. قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ ضَرْبِ جَنَاحِهِمْ وَسَبَبِيَّتِهِ مِنَ الْخَوْفِ أَوْ غَيْرِهِ. (كَأَنَّهُ) أَيْ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (سِلْسِلَةٌ) : بِكَسْرِ السِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (عَلَى صَفْوَانٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: حَجَرٌ أَمْلَسُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. وَنَظِيرُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ. (فَإِذَا فُزِّعَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ: أُزِيلَ الْفَزَعُ وَكُشِفَ (عَنْ قُلُوبِهِمْ) . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: ٢٣] عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَزَوَالُ الْفَزَعِ عَنْهُمْ هُنَا بَعْدَ سَمَاعِهِمُ الْقَوْلَ، كَالْفَصْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سَمَاعِ الْوَحْيِ اهـ.

وَلَعَلَّهُ نَظِيرُهُ، وَإِلَّا فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْصَمُ عَنْهُ وَقَدْ وَعَى مَا قَالَ، وَهُمْ يُكْشَفُ الْفَزَعُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَدْرُوا مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ، أَوْ يُقَالُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، فَقَوْلُهُ: (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَدْرِ إِمَّا لِغَلَبَةِ الْفَزَعِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقِلَّةِ الْكَشْفِ لَهُ (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا) : وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ لِلسَّائِلِينَ وَهُمْ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ (لِلَّذِي قَالَ) أَيْ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الْحَقَّ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: قَالُوا الْحَقَّ لِأَجْلِ مَا قَالَهُ تَعَالَى، أَيْ: عَبَّرُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ بِلَفْظِ الْحَقِّ، فَالْحَقُّ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، فَالتَّقْدِيرُ قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ إِمَّا كَلِمَةُ كُنْ أَوْ مَا يُقَابِلُ الْبَاطِلَ، فَالْمُرَادُ بِكُنْ مَا هُوَ سَبَبُهَا مِنَ الْحَوَادِثِ الْيَوْمِيَّةِ بِأَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا، وَيَضَعَ آخَرِينَ، وَيُولِجَ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجَ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَيُخْرِجَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُشْفِي سَقِيمًا، وَيُسْقِمَ صَحِيحًا، وَيَبْتَلِيَ مُعَافًى، وَيُعَافِيَ مُبْتَلًى، وَيُعِزَّ ذَلِيلًا وَيُذِلَّ عَزِيزًا، وَيُفْقِرَ غَنِيًّا وَيُغْنِيَ فَقِيرًا، فَسُبْحَانَ الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ حَقًّا لَا بَاطِلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: ١٩١] ، أَيْ: عَبَثًا، بَلْ هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ الْمَسْطُورُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الثَّابِتِ، أَيْ: قَضَى وَقَدَّرَ وَحَكَمَ فِي الْكَائِنَاتِ بِمَا كَانَ مُقَرَّرًا فِي الْأَزَلِ ثَابِتًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (وَهُوَ) أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (الْعَلِيُّ) أَيِ: الرَّفِيعُ شَأْنُهُ (الْكَبِيرُ) أَيِ: الْعَظِيمُ بُرْهَانُهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَأْنِيثُ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: (فَسَمِعَهَا) أَيِ: الْكَلِمَةُ الْحَقَّةُ (مُسْتَرِقُو السَّمْعِ) وَإِنَّمَا عَدَلُوا عَنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ وَالتَّصْرِيحُ بِالْمَقْضِيِّ مِنَ الشُّؤُونِ وَالْأُمُورِ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُجْمَلِ الْمُوجَزِ ; لِأَنَّ قَصْدَهُمْ فِي ذَلِكَ إِزَالَةُ الْفَزَعِ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، يَعْنِي لَا تَفْزَعُوا وَتُبْقُوا عَلَى قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ مَا عَهِدْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ قَضَاءِ الشُّؤُونِ لَا مَا تَظُنُّونَهُ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، هَذَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجِيبِينَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَغَيْرِهِمَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ تَسْمَعُ أَهْلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>