السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، فَإِذَا جَاءَ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ! مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ: الْحَقَّ، فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ. (وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (هَكَذَا) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا صَنَعَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّنْدِيدِ وَرُكُوبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: (بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ) . تَوْضِيحٌ أَوْ بَدَلٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ: مُسْتَرِقُو السَّمْعِ بَعْضُهُ رَاكِبٌ بَعْضَهُ مُرْدَفِينَ كَرُكُوبِ أَصَابِعِي هَذِهِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ فِي بَعْضِهِ، وَالْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ جَمْعٌ لِإِرَادَةِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: ٤] الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ جَارٍ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ.
(وَوَصَفَ سُفْيَانُ) أَيِ: ابْنُ عُيَيْنَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ (بِكَفِّهِ) أَيْ: بِأَصَابِعِهِ. (فَحَرَّفَهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ فَفَرَّجَ كَفَّهُ (وَبَدَّدَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى أَيْ وَفَرَّقَ (بَيْنَ أَصَابِعِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةِ رُكُوبِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِأَصَابِعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: ١١٦] ، وَقَوْلِكَ: وَجْهُهُ يَصِفُ الْجَمَالَ. (فَيَسْمَعُ) أَيْ: أَحَدُهُمْ، أَوِ الْمُسْتَرِقُ (الْكَلِمَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَكَلَامُ الرَّاوِي مُعْتَرِضٌ، بَيْنَهُمَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا إِعَادَةٌ لِقَوْلِهِ: فَسَمِعَهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ لِطُولِ الْفَصْلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ إِلَخْ، وَبَيَانٌ لِتَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ بِقَوْلِهِ وَوَصَفَ إِلَخْ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. (فَيُلْقِيهَا) أَيْ: يَرْمِيهَا وَيَقْذِفُهَا (إِلَى مَنْ تَحْتَهُ) أَيْ مِنَ الْجِنِّ (ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ) : وَإِنَّمَا عَدَلَ مِنْ " إِلَى " إِلَى " عَلَى " لِلْإِشَارَةِ إِلَى انْتِهَاءِ الْأَمْرِ وَاسْتِقْلَالِ ظُهُورِ الْمَقْصُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسَّاحِرُ الْمُنَجِّمُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الْمُنَّجِمُ سَاحِرٌ ; لِأَنَّ السَّاحِرَ لَا يُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ اهـ. فَأَوْ فِي قَوْلِهِ (أَوِ الْكَاهِنِ) . لِلتَّنْوِيعِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَاهِنَ سَاحِرٌ، فَالسَّاحِرُ كَاهِنٌ فَأَوْ لِلشَّكِّ (فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَمَرْفُوعًا يَعْنِي: الْجِنِّيَّ قَدْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهُ إِلَى وَلِيِّهِ، أَدْرَكَ الشِّهَابَ أَوْ أَدْرَكُهُ الشِّهَابُ. قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: ١٠] أَيْ: لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالشِّهَابُ مَا يُرَى كَأَنَّ كَوْكَبًا انْقَضَّ، ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. (وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ) وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِدْرَاكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمَرْجُومَ هَلْ يَتَأَذَّى بِهِ فَيَرْجِعُ أَوْ يَحْتَرِقُ، لَكِنْ قَدْ يُصِيبُ الصَّاعِدَ مَرَّةً وَقَدْ لَا يُصِيبُ، كَالْمَوْجِ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْهُ رَأْسًا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ النَّارِ فَلَا يَحْتَرِقُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّارِ الصِّرْفِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ مِنَ التُّرَابِ الْخَالِصِ، مَعَ أَنَّ النَّارَ الْقَوِيَّةَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتَهْلَكَتْهَا. (فَيَكْذِبُ) أَيِ: الْكَاهِنُ (مَعَهَا) أَيْ: مَعَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الْمَسْمُوعَةِ الصَّادِقَةِ الْوُقُوعِ (مِائَةَ كَذْبَةٍ) أَيْ: وَيُخْبِرُ النَّاسَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلِمَاتِ الْكَاذِبَةِ، فَإِذَا أَكْذَبَهُ أَحَدٌ بِبَعْضِ كِذْبَاتِهِ (فَيُقَالُ) أَيْ: فَيَقُولُ النَّاسُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ، أَيْ: مَنْ يُصَدِّقُ الْكَاهِنَ (أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ (كَذَا وَكَذَا؟) أَيْ: مِنَ الْخَبَرِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (فَيُصَدَّقُ) : بِصِيغَةٍ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدَةِ الدَّالِ، أَيِ: الْكَاهِنُ، فِي جَمِيعِ كَلِمَاتِهِ وَكِذْبَاتِهِ (بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الْغَرَائِبِ، وَأَعْجَبِ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْكَاذِبَ فِي مِائَةِ كَلِمَةٍ يُعَدُّ صَادِقًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَاقِعَةٍ، وَمَعَ هَذَا مَا يُصَدِّقُونَ مَنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ إِلَّا الصِّدْقُ، فَالتَّصْدِيقُ فِي التَّحْقِيقِ مِنَ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute