للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَهِيَ صِغَارُ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ، وَرُجِّحَتْ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ؛ لِأَنَّ رِعَاءَ الْغَنَمِ أَضْعَفُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِخِلَافِ رِعَاءِ الْإِبِلِ فَهُمْ أَهْلُ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ. [ (يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) ] أَيْ: يَتَفَاضَلُونَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَكَثْرَتِهِ وَيَتَفَاخَرُونَ فِي حُسْنِهِ وَزِينَتِهِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ جَعَلْتَ الرُّؤْيَةَ فِعْلَ الْبَصِيرَةِ، أَوْ حَالٌ إِنْ جَعَلْتَهَا فِعْلَ الْبَاصِرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ تُبْسَطُ لَهُمُ الدُّنْيَا مِلْكًا، أَوْ مُلْكًا فَيَتَوَطَّنُونَ الْبِلَادَ، وَيَبْنُونَ الْقُصُورَ الْمُرْتَفِعَةَ، وَيَتَبَاهَوْنَ فِيهَا، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَغَلُّبِ الْأَرَاذِلِ، وَتَذَلُّلِ الْأَشْرَافِ، وَتَوَلِّي الرِّئَاسَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَتَعَاطِي السِّيَاسَةِ مَنْ لَا يَسْتَحْسِنُهَا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى اتِّسَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَيَتَنَاسَبُ الْمُتَعَاطِفَانِ فِي الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِجَلَالَةِ خَطْبِهِمَا، وَنَبَاهَةِ شَأْنِهِمَا، وَقُرْبِ وُقُوعِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى إِيمَاءً إِلَى كَثْرَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَالْجَهْلِ وَبُلُوغِهَا مَبْلَغَ الْعُلْيَا، وَالثَّانِيَةُ إِلَى غَلَبَةِ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، وَنِسْيَانِ مَنَازِلِ الْعُقْبَى، وَيُقَالُ: تَطَاوَلَ الرَّجُلُ إِذَا تَكَبَّرَ فَلَا يَرِدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: التَّفَاعُلُ فِيهِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعُرَاةِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ لَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّا كَانَ عَزِيزًا فَذَلَّ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ الْعَارِينَ عَنِ الِقِيَامِ بِالدِّيَانَةِ يَسْكُنُونَ الْبِلَادَ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُصُورَ الرَّفِيعَةَ، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ انْقِلَابَ الدُّنْيَا مِنَ النِّظَامِ يُؤْذِنُ بِأَنْ لَا يُنَاسِبَ فِيهَا الْمَقَامَ فَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ الْكِرَامِ، كَمَا أَنْشَدَتِ الْمَلِكَةُ حُرَقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ لَمَّا سُبِيَتْ، وَأُحْضِرَتْ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ:

فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ

فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ

فَهَنِيئًا لِمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا كَسَاعَةٍ، وَاشْتَغَلَ فِيهَا بِالطَّاعَةِ قِيَامًا بِأَمْرِ الْحَبِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. قَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ - مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: ١ - ٢] (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (ثُمَّ انْطَلَقَ) أَيِ: السَّائِلُ (فَلَبِثْتُ) أَيْ: أَنَا. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَبِثَ أَيْ: هُوَ (مَلِيًّا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ الْمَلَاوَةِ إِذِ الْمَهْمُوزُ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ أَيْ: زَمَانًا، أَوْ مُكْثًا طَوِيلًا، وَبَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ قَالَ عُمَرُ: فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَفِي أُخْرَى فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ حِبَّانَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَنْدَهْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي وُرُودِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ رَدٌّ عَلَى مَنْ وَهَمَ أَنَّ رِوَايَةَ ثَلَاثًا مُصَحَّفَةٌ مِنْ رِوَايَةِ مَلِيًّا، وَالْمَعْنَى أَنِّي لَمْ أَسَتَخْبِرْ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَهَابَةً، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَهُ فِي الْمَجْلِسِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْحَالِ بَلْ قَامَ فَأَخْبَرَ الصَّحَابَةَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عُمَرَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (ثُمَّ قَالَ لِي: (يَا عُمَرُ! أَتَدْرِي) أَيْ: أَتَعْلَمُ، وَفِي الْعُدُولِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (مَنِ السَّائِلُ؟) أَيْ: مَا يُقَالُ فِي جَوَابِ هَذَا بَشَرٌ السُّؤَالِ (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ السَّابِقَةَ وَالتَّعَجُّبَ أَوْقَعَهُمْ فِي التَّرَدُّدِ أَهُوَ بَشَرٌ أَمْ مَلَكٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ كَثِيرًا يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ. (قَالَ: (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ) أَيْ: إِذَا فَوَّضْتُمُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَخْبَارِ أَيْ: تَفْوِيضُكُمْ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْإِخْبَارِ بِهِ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ ; لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَأَكَّدَ الْكَلَامَ لِأَنَّ السَّائِلَ طَالِبٌ مُتَرَدِّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ رُدُّوهُ فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَمَا رَأَوْا شَيْئًا. قَالَ الْقَاضِي: وَجِبْرِيلُ مَلَكٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَمِنْ خَوَاصِّ الْمَلَكِ أَنْ يَتَمَثَّلَ لِلْبَشَرِ فَيَرَاهُ جِسْمًا. اهـ.

قِيلَ: وَالسِّرُّ فِي التَّوَسُّطِ أَنَّ الْمُكَالَمَةَ تَقْتَضِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَوَسُّطَ جِبْرِيلَ لِيَتَلَقَّفَ الْوَحْيَ بِوَجْهِهِ الَّذِي فِي عَالَمِ الْقُدْرَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ مِنَ اللَّوْحِ، وَيُلْقِيهِ بِوَجْهِهِ الَّذِي فِي عَالَمِ الْحِكْمَةِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُبَّمَا يَنْزِلُ الْمَلَكُ إِلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَرُبَّمَا يَرْتَقِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ يَرْتَقِي إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَيَتَعَرَّى عَنِ الْكُسْوَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَرِدُ الْوَحْيُ عَلَى الْقَلْبِ فِي لُبْسَةِ الْجَلَالِ، وَأُبَّهَةِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْكَمَالِ، وَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>