فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَجَدَهُ الْمُنْزِلُ مُلْقًى فِي الرُّوعِ كَمَا فِي الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَحْيَانًا: ( «يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» "، ثُمَّ جِبْرِيلُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَبِفَتْحِهَا وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعَ يَاءٍ وَتَرْكِهَا، أَرْبَعُ لُغَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ. [ (أَتَاكُمْ) ] : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، أَوْ خَبَرٌ لِجِبْرِيلَ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ [ (يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ) ] ": جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي أَتَاكُمْ أَيْ: عَازِمًا تَعْلِيمَكُمْ، فَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِتْيَانِ مُعَلِّمًا، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمُرَادُ تَثْبِيتُهُمْ عَلَى عِلْمِهِمْ، وَتَقْدِيرُهُ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَمَكَّنَ غَايَةَ التَّمَكُّنِ فِي نُفُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَحْصُولَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَعَزُّ مِنَ الْمُنْسَاقِ بِلَا تَعَبٍ، وَإِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالدِّينِ الْقَيِّمِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، أَوِ الْخِطَابُ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ خُصُوصًا، أَوْ عُمُومًا، فَإِنَّ سَائِرَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ يُسَمَّى دِينًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: ١٩] الْمُرَادُ بِهِ الْكَامِلُ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: ٨٥] وَفِي رِوَايَةٍ: أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذَا لَمْ تَسْأَلُوا، وَفِي أُخْرَى: «وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا كُنْتُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَبِأَنَّهُ لَجِبْرِيلُ» ، وَفِي أُخْرَى: ثُمَّ وَلَّى، فَلَمَّا لَمْ يُرَ طَرِيقُهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ خُذُوا عَنْهُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى» ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ تَغْيِيرٍ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ غَزِيرَةٍ، وَفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي طَرِيقِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ سُمِّيَ حَدِيثَ جِبْرِيلَ، وَأُمَّ الْأَحَادِيثِ، وَأُمَّ الْجَوَامِعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالطَّرِيقَةِ، وَالْحَقِيقَةِ بَيَانًا إِجْمَالِيًّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الَّذِي عُلِمَ تَفَاصِيلُهَا مِنَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَالشَّرَائِعِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أُلُوفُ التَّحِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ تُسَمَّى أُمَّ الْقُرْآنِ، وَأُمَّ الْكِتَابِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْحِكَمِ الْفُرْقَانِيَّةِ بِالدَّلَالَاتِ الْإِجْمَالِيَّةِ، فَحَدِيثُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالْحَمْدَلَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ لِاخْتِيَارِهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَمَفْتَحِ الْأَبْوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute