للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(قَالَ) : يَعْنِي آدَمُ (أَيْ رَبِّ) أَيْ: يَا رَبِّ (فَإِنِّي) أَيْ: إِذَا أَبَيْتَ الزِّيَادَةَ مِنْ عِنْدِكَ، فَإِنِّي (قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مُدَّةِ عُمْرِي وَسِنِّهِ (سِتِّينَ سَنَةً) . أَيْ: تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَبَرِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِدْعَاءُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ؛ إِذْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ مَا يُخَالِفُ هَذَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مِنْ عُمْرِهِ أَوَّلًا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ زَادَ عِشْرِينَ فَصَارَ سِتِّينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: ٥١] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: ١٤٢] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَأْتَى عِزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِامْتِحَانِ بِأَنْ جَاءَ وَبَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ سِتُّونَ، فَلَمَّا جَحَدَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَقَاءِ أَرْبَعِينَ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا تَفَكَّرَ فَجَحَدَ ثَانِيًا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي بَابِ النِّسْيَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ شَكٌّ لِلرَّاوِي، وَتَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْعَدَدِ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتِّينَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِالْأَرْبَعِينَ وَأُخْرَى بِالسِّتِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سَاعَاتِ أَيَّامِ عُمْرِ آدَمَ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ زَمَانِ دَاوُدَ، فَمَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ، وَإِلَّا فَبِظَاهِرِهِ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ كَمَا حُقِّقَ فِي دَوَرَانِ الْفَلَكِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ.

(قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ) . يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِجَابَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتِهِ أَيْ: أَنْتَ مَعَ مَطْلُوبِكَ مَقْرُونَانِ (وَكَانَ) أَيْ: (آدَمُ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (يَعُدُّ لِنَفْسِهِ) ، أَيْ: يُقَدِّرُ لَهُ وَيُرَاعِي أَوْقَاتَ أَجَلِهِ سَنَةً فَسَنَةً (فَأَتَاهُ) أَيِ: امْتِحَانًا (مَلَكُ الْمَوْتِ) ، أَيْ: بَعْدَ تَمَامِ تِسْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً (فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ) ، بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيِ: اسْتَعْجَلْتَ وَجِئْتَ قَبْلَ أَوَانِهِ. ( «قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ» ) أَيْ: أَنْكَرَ آدَمُ (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ سِرِّ أَبِيهِ (وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ طِينَةِ أَبِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ آدَمَ نَسِيَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَجَحَدَ فَيَكُونُ اعْتِذَارًا لَهُ، إِذْ يَبْعُدُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنْكِرَ مَعَ التَّذَكُّرِ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ يُشِيرُ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: ١١٥] ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إِذِ الْآيَةُ فِي قَضِيَّةِ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَمِنْ يَوْمَئِذٍ أُمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُمِرَ النَّاسُ أَوِ الْغَائِبُ، وَقَوْلُهُ (بِالْكِتَابِ) أَيْ: بِكِتَابَةِ الْحُجَّةِ (وَالشُّهُودِ) . فِي الْقَضِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ. فَالْحَدِيثُ السَّابِقُ أَرْجَحُ، وَكَذَا أَوْفَقُ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>