للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَلَى خَلْقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ، فَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الَّذِي يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ، وَالشِّمَالُ عَلَى عَكْسِهَا، وَمَعْنَى كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ أَنَّ كُلًّا مِنْ خَلْقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ ; لِأَنَّهُ عَزِيزٌ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا مَانِعَ لَهُ فِيهِ وَلَا مُنَازِعَ، حَكِيمٌ يَعْلَمُ بِلُطْفِ حِكْمَتِهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَمَعْنَى الْيَمِينِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ ... لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أَيْ: بِتَدْبِيرِهِ الْأَحْسَنِ وَتَحَرِّيهِ الْأَصْوَبِ، وَإِذَا حُمِلَتَا عَلَى النِّعْمَةِ كَانَ الْيَمِينُ الْمَبْسُوطَةُ عِبَارَةً عَنْ مَنْحِ الْأَلْطَافِ وَتَيْسِيرِ الْيُسْرَى عَلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَالشِّمَالُ الْمَقْبُوضَةُ عَلَى عَكْسِهَا. وَمَعْنَى كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: ٦٢] ، فَالْفَاصِلَتَانِ فِي الْآيَتَيْنِ أَعْنِي: " {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: ٤٢] " وَ " {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: ٦٢] "، مُلَوِّحَتَانِ إِلَى مَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. كَلَامُهُ.

وَحَاصِلُ مَرَامِهِ، أَنَّ الْيَدَيْنِ كِنَايَتَانِ عَنْ آثَارِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ مِنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ، فَأَصْلُ إِيجَادِ الْخَلْقِ بَعْدَ عَدَمِهِمْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْجَلَالِ إِظْهَارًا لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ النَّاشِئِ عَنْ صِفَةِ الْعَدْلِ، ثُمَّ أَظْهَرَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ كَمَالَ الْجَمَالِ النَّاشِئِ عَنْ صِفَةِ الْفَضْلِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ ضَلَّ وَغَوَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ نُورَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَوْلُهُ: فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ، أَيْ: أَضْوَأُ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَهْلُ زَمَانِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (- أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ -) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاكِ أَيْ: بَلْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ مِنْ بَابِ تَفْوِيضِ عِلْمِهِ إِلَى عَالِمِهِ، وَلَعَلَّهُ كَوْنُهُ مِنْ أَقَلِّ الْأَنْبِيَاءِ عُمْرًا، أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْبُكَاءِ كَآدَمَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْهُمَا مِنَ الْخَطَأِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي، فَعَلَى هَذَا مِنْ أَضْوَئِهِمْ صِفَةُ رَجُلٍ وَفِيهِمْ خَبَرُهُ، وَعَلَى إِسْقَاطِ مِنْ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ: هُوَ أَضْوَأُهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَضْوَأُهُمْ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الضَّوْءِ وَالْإِشْرَاقِ دُونَهُ، بَلْ لِبَيَانِ فَضْلِهِ وَجَمْعِهِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِفَاضَةِ نُورِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: ٢٦] ، قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا لَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ نُورٌ هُنَالِكَ، بَلْ لَهُ حِجَابٌ ظُلْمَانِيٌّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ غَالِبًا عَنْ كَمَالٍ نُورَانِيٍّ، وَلِذَا يَدْخُلُ سُلَيْمَانُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَذَا يَدْخُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِسَبَبِ مَالِهِ الْكَثِيرِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُلْكِ الْكَبِيرِ بَعْدَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. (قَالَ: يَا رَبِّ! مَنْ هَذَا؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ أَوَّلًا مَا هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُ مَا عَرَفَ مَا رَآهُ، ثُمَّ لَمَّا قِيلَ لَهُ هُمْ ذُرِّيَّتُكَ فَعَرَفَهُمْ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ ( «قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ) . وَفِي نُسْخَةٍ: عُمْرَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عُمْرَ أَرْبَعِينَ مَفْعُولُ كَتَبْتُ، وَمُؤَدَّى الْمَكْتُوبِ ; لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ عُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَنُصِبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَأْوِيلِ كَتَبْتُ لَهُ أَنْ يُعَمِّرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. (قَالَ: يَا رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ) . أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ وَفَضْلِكَ (قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي كَتَبْتُ لَهُ) . أَيْ: قَدَّرْتُ وَقَضَيْتُ لِأَجَلِهِ، وَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِي، وَلَا تَبْدِيلَ لِقَدَرِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَلِكَ الَّذِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مُعَرَّفَتَانِ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ: لَا مَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا نُقْصَانَ، وَكَانَ كَذَلِكَ حَيْثُ وَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ. قُلْتُ: لَكِنْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى مَا وَهَبَ لَهُ وَكَمَّلَ لِآدَمَ عُمْرَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَفِيهِ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعُمْرُ الْمُعَلَّقُ يَزِيدُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: ١١] ، وَكَذَا مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>