للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذُرِّيَّتِكَ (بَيْنَهُمْ) ، أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ وَمِنَّةٌ جَسِيمَةٌ (فَقَالَ لَهُ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ وَالضَّمِيرٌ لِلَّهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ يَعْجِزُ عَنْهُ مَا سِوَاهُ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ مِنْ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَإِثْبَاتِ التَّنْزِيهِ مَعَ التَّفْوِيضِ أَسْلَمُ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ أَهْلِ الْخَلَفِ مَعَ خُلْفٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَعْلَمُ، وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ تَجَلِّيَاتٍ صُورِيَّةً مَعَ تَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنْ أُمُورٍ عَارِضِيَّةٍ، فَيَزُولُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصِّفَاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآيَاتِ، وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَدَيْنِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَأَنَّ الْجَمَالَ هُوَ الْيَمِينُ الْمُطْلَقُ، وَإِنْ كَانَ الْيَمِينُ فِي الْجَلَالِ أَيْضًا قَدْ تَحَقَّقَ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ: (اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا) ، أَيْ مِنَ الْيَدَيْنِ (شِئْتَ) أَيْ: أَرَدْتَ (فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ) : مِنْ كَلَامِ آدَمَ أَوْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلُهُ: (مُبَارَكَةٌ) ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (ثُمَّ بَسَطَهَا) ، أَيْ: فَتَحَ الرَّبُّ تَعَالَى يَمِينَهُ (فَإِذَا فِيهَا) أَيْ: مَوْجُودٌ (آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ) أَيْ: مِثَالُهُ وَأَمْثِلَةُ أَوْلَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَعْنِي رَأَى آدَمُ مِثَالَهُ وَمِثَالَ بَنِيهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ (فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! مَا هَؤُلَاءِ؟) ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ قَبْلَ الْمِيثَاقِ (قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ) ، الظَّاهِرُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الْيَمِينِ اخْتِصَاصُهُمْ بِالصَّالِحِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: (فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ) أَيْ: مِنْهُمْ ( «مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ» ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِكُلِّهِمْ ضِيَاءٌ، لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهِمْ بِحَسْبِ نُورِ إِيمَانِهِمْ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ كَالتَّتْمِيمِ صَوْنًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ إِنْبَاتِ الْجَارِحَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. قُلْتُ: هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ إِنَّهُ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ احْتِرَاسًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِ آدَمَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ يَسَارًا وَشَمَالًا، فَتَكُونُ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنَ الْأُخْرَى أَوْ أَبْرَكَ وَأَيْمَنَ وَأَحْرَى، ثُمَّ قَالَ: وَلِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ كَلَامٌ مَتِينٌ فِيهِ قَالَ: وَالْيَدَانِ إِنْ حُمِلَتَا عَلَى مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمِلْكِ صَحَّ، وَإِنْ حُمِلَتَا عَلَى مَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْأَثَرِ الْحَسَنِ صَحَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعَنْ ظُهُورِ نِعْمَتِهِ عَلَى بَعْضِهِمْ. قُلْتُ: لَا ارْتِيَابَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْمَبْنَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ لِيَظْهَرَ الْمَقْصُودُ وَيَتَّضِحَ الْمَرَامُ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِيَدِ الصِّفَةِ لَا بِيَدِ الْجَارِحَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ يَدُ الْجَارِحَةِ يَمِينًا وَيَسَارًا ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ لِمُتَبَعَّضٍ وَمُتَجَزَّئٍ ذِي أَعْضَاءٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا وُصِفَ الرَّبُّ بِهِ يَدَ جَارِحَةٍ بَيَّنَ بِمَا قَالَ أَنْ لَيْسَتْ هِيَ يَدَ جَارِحَةٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا وُصِفَ بِالْيَدَيْنِ، وَيَدَا الْجَارِحَةِ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا يَمِينًا وَالْأُخْرَى يَسَارًا، وَالْيُسْرَى نَاقِصَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. عَرَّفَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَالَ صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قِيلَ لَهُ اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ أَرَادَ بِهِ لِسَانَ الشُّكْرِ وَالنِّعْمَةِ، لَا لِسَانَ الْحُكْمِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمُلْكِ فَذَكَرَ الْفَضْلَ وَالنِّعْمَةَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُبْدِيهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مِنَنِهِ فَضْلٌ وَطَوْلٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ؛ فَمِنْ مَنْفُوعٍ يَنْفَعُهُ، وَمِنْ مَدْفُوعٍ عَنْهُ يَحْرُسُهُ، فَقَصَدَ قَصْدَ الشُّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْمِنَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَإِذَا نَقَصَ حَظُّ الرَّجُلِ وَبُخِسَ نَصِيبُهُ قِيلَ جُعِلَ سَهْمُهُ فِي الشِّمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اجْتِلَابُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ قِيلَ: لَيْسَ فُلَانٌ بِالْيَمِينِ وَلَا بِالشِّمَالِ.

وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ نَحْوَهُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ مَلَكٍ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِجَمْعِ أَجْزَاءِ الطِّينِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ أَمَرَهُ بِخَلْطِهَا بِيَدَيْهِ، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ بِيَمِينِهِ، وَكُلُّ خَبِيثٍ بِشِمَالِهِ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ لِلْمَلَكِ، فَأَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ، وَجَعَلَ كَوْنَ بَعْضِهِمْ فِي يَمِينِ الْمَلَكِ عَلَامَةً لِأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ، وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ فِي شِمَالِهِ عَلَامَةً لِأَهْلِ الشَّرِّ مِنْهُمْ، فَلِذَلِكَ يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ - وَتَقْرِيرُهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الْبَيَانِ، هُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْيَدِ عَلَى الْقُدْرَةِ تَارَةً، وَعَلَى النِّعْمَةِ أُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالنِّعْمَةَ صَادِرَتَانِ عَنْهَا، وَهِيَ مَنْشَؤُهُمَا، وَكَذَا الْقُدْرَةُ مَنْشَأُ الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ إِمَّا خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ وَهِدَايَةٌ وَإِضْلَالٌ، وَالْيَدَانِ فِي الْحَدِيثِ إِذَا حُمِلَتَا، عَلَى الْقُدْرَةِ حُمِلَتَا

<<  <  ج: ص:  >  >>