للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ أَحَمَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا بِوَحْيٍ إِلَيْهِ وَيُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَنَعَ أَنْ يُكَنَّى بِهِ غَيْرُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، أَمَّا لَوْ كُنِّيَ بِهِ أَحَدٌ لِلنِّسْبَةِ إِلَى ابْنٍ لَهُ اسْمُهُ قَاسِمٌ، أَوْ لِلْعَلَمِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ جَازَتْ وَيَدُلُّكَ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لِلنَّهْيِ. قُلْتُ: لَكِنْ يَأْبَى عَلَيْكَ مَا سَبَقَ مِنْ سَبَبِ الْوُرُودِ الْمَسْطُورِ لِلنَّهْيِ. قَالَ: وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ فَيُبَاحُ التَّكَنِّي الْيَوْمَ بِأَبِي الْقَاسِمِ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ فِيهِ مِنِ اسْمِهِ مُحَمَّدٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَعِلَّتُهُ الْتِبَاسُ خِطَابِهِ بِخِطَابِ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَهْيُهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَقِيبَ مَا سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، وَمَا رُوِيَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي «عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ وَلَدٌ أُسْمِيهِ مُحَمَّدًا، وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ. قَالَ: نَعَمْ» . أَقُولُ: دَعْوَى النَّسْخِ مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ.

وَثَالِثُهَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ وَالْأَدَبِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَرِيرٍ. قُلْتُ: وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، لَا سِيَّمَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنْ حَيَاتِهِ، عَلَى أَنَّهُ عَلَّلَ النَّهْيَ بِعِلَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى اخْتِصَاصِ الِاسْمِ بِهِ حَالَ وُجُودِهِ قَالَ:

وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّهْيَ لِلْجَمْعِ وَلَا بَأْسَ بِالْكُنْيَةِ وَحْدَهَا لِمَنْ لَا يُسَمِّي وَاحِدًا مِنَ الِاسْمَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: اشْرَبِ اللَّبَنَ، وَلَا تَأْكُلِ السَّمَكَ أَيْ: حِينَ شَرِبْتَهُ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. قُلْتُ: هَذَا مَعَ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا مِنْ جَوَازِ التَّسْمِيَةِ، وَمَنْعُ التَّكْنِيَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَارَنًا بِالتَّسْمِيَةِ، أَوْ مُفَارِقًا لَهَا لَا يُلَائِمُهُ سَبَبُ وُرُودِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُنَاسِبُهُ الْعِلَّةُ الْمَسْطُورَةُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَتَأَمَّلْ. وَالنَّظِيرُ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ شُرْبِ اللَّبَنِ وَأَكْلِ السَّمَكِ مُضِرٌّ عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَأَمَّا هُنَا فَالضَّرَرُ فِي التَّكْنِيَةِ وَحْدَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا اشْتِرَاكُ الِاسْمِ أَمْ لَا. فَالنَّظِيرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ أَنْ يُقَالَ: خَالِطِ النَّاسَ وَلَا تُؤْذِ.

قَالَ: وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، وَأَرَادَ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْقَاسِمِ، وَقَدْ غَيَّرَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ اسْمَ ابْنِهِ حِينَ بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَكَانَ اسْمُهُ الْقَاسِمَ، وَكَذَا عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ. قُلْتُ: لَوْ قِيلَ قَوْلٌ سَابِعٌ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ التَّكْنِيَةِ بِأَبِي الْقَاسِمِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ، وَعَنِ التَّسْمِيَةِ بِالْقَاسِمِ أَيْضًا نَظَرًا إِلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَنْزِيهًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَمَّا جَوَازُ إِطْلَاقِ أَبِي الْقَاسِمِ وَمَنْعُ الْقَاسِمِ فَمَمْنُوعٌ وَلَا لَهُ وَجْهٌ مَشْرُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَرْوَانَ غَيَّرَ اسْمَ ابْنِهِ الْقَاسِمِ لَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَخَافَ أَنْ يُكَنَّى بِهِ وَيَقَعَ الْمَحْظُورُ، فَغَيَّرَهُ تَخَلُّصًا مِنْ حُصُولِ الْمَحْذُورِ.

قَالَ: وَسَادِسُهَا: أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِمُحَمَّدٍ مَمْنُوعَةٌ مُطْلَقًا، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» ". قُلْتُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِ التَّسْمِيَةِ بِمُحَمَّدٍ، بَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا سُمِّيَ وَلَدٌ بِمُحَمَّدٍ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِسَبَبِ هَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ، فَلَا يُعَامَلُ مَعَهُ مُعَامَلَةَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا " إِذَا سَمَّيْتُمْ مُحَمَّدًا فَلَا تَضْرِبُوهُ وَلَا تَحْرِمُوهُ ". وَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " إِذَا سَمَّيْتُمُ الْوَلَدَ مُحَمَّدًا فَأَكْرِمُوهُ وَأَوْسِعُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا تُقَبِّحُوا لَهُ وَجْهًا ". قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْكُوفَةِ: لَا تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَسَبَبُهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَعَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَبُّ بِكَ، وَاللَّهِ لَا تُدْعَى مُحَمَّدًا مَا بَقِيتَ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ. قُلْتُ: فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَيْسَ مُطْلَقًا لِذَاتِهِ، بَلْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَحْصُلَ بِسَبَبِهِ إِهَانَةٌ لِسَمِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرِيكُهُ فِي اسْمِهِ قَالَ: وَهَذَا أَكْثَرُهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ: وَقَالَ أَيْضًا: أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ: وَكَرِهَ مَالِكٌ التَّسَمِّيَ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ كَجِبْرِيلَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ: «سَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>