للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يَكُونُ الْأَوَّلُ عَامًّا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ، وَالثَّانِي تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَيُؤَيِّدُ التَّوْجِيهَ السَّابِقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: ٣٢] ، ( «وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي» ) أَيْ: بَدَلًا عَنْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَفَتَايَ وَفَتَاتِي) . فَالْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " وَهُمَا بِمَعْنَى الشَّابِّ أَوِ الشَّابَّةِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي الْخَدَمِ، أَوِ الْقَوِيِّ وَالْقَوِيَّةِ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ (وَلَا يَقُلِ الْعَبْدُ: رَبِّي) أَيْ: بِالنِّدَاءِ أَوِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ، فَكُرِهَ الْمُضَاهَاةُ بِالِاسْمِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي مَعْنَى الشِّرْكِ إِذِ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِيهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَلَكِنْ لِيَقُلْ: سَيِّدِي) ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ السِّيَادَةِ إِلَى مَعْنَى الرِّيَاسَةِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الزَّوْجُ سَيِّدًا. (وَفِي رِوَايَةٍ: لِيَقُلْ سَيِّدِي) أَيْ: تَارَةً (وَمَوْلَايَ) أَيْ: أُخْرَى، لَكِنْ بِمَعْنًى مُتَصَرِّفٍ. (وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلَايَ» ) . أَيْ: بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُعِينِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ؛ وَلِذَا يُطْلَقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ". عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ، " «مَوْلَى الرَّجُلِ أَخُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ» " عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْلَى لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى؛ وَلِذَا قَالَ: (فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللَّهُ) أَيِ: الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ؛ وَلِذَا قِيلَ فِي كَرَاهَةِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ هُوَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: ٣٢] ، وَقَالَ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: ٧٥] ، وَقَالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢] ، وَقَالَ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: ٢٥] ، وَمَعْنَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْتِزَامِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، فَلَمْ يَحْسُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: فُلَانٌ عَبْدِي، بَلْ يَقُولُ: فَتَايَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ فَتَاهُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: ٢٠] ، عَلَى هَذَا امْتِحَانُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ ابْتُلِيَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّقِّ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: إِنَّمَا يُكْرَهُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَقُولَ لِمَالِكِهِ: رَبِّي؛ لِأَنَّ فِيهِ إِيهَامَ الْمُشَارَكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا حَدِيثُ: حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا فِي الضَّالَّةِ فَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ فَهِيَ كَالدَّارِ وَالْمَالِ، لَا كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ وَالدَّارِ، وَأَمَّا قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢] ، وَ {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: ٢٣] ، فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَاطَبَهُ بِمَا يَعْرِفُهُ وَجَازَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ فِي شَرْعِنَا اهـ.

وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: ٢٣] ، أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ: إِنَّهُ خَالِقِي. أَحْسَنَ مَنْزِلَتِي وَمَأْوَايَ بِأَنْ عَطَّفَ عَلَيَّ الْقُلُوبَ فَلَا أَعْصِيهِ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢] أَيِ: اذْكُرْ حَالَتِي عِنْدَ الْمَلِكِ كَيْ يُخَلِّصَنِي {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: ٤٢] ، أَيْ: أَنْسَى يُوسُفَ ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لَمَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ سَبْعًا بَعْدَ الْخَمْسِ» " كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ: لَمَّا قَالَ لِصَاحِبِ السِّجْنِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢] ، نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: اللَّهُ يُقْرِئُكَ السَّلَامُ وَيَقُولُ: مَنْ حَبَّبَكَ إِلَى أَبِيكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ؟ وَمَنْ قَيَّضَ لَكَ السَّيَّارَةَ لِتَخْلِيصِكَ، وَمَنْ طَرَحَ فِي قَلْبِ مَنِ اشْتَرَاكَ مِنْ مَوَدَّتِكَ حَتَّى قَالَ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: ٢١] ، وَمَنْ صَرَفَ عَنْكَ وَبَالَ الْمَعْصِيَةِ؟ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي حَفِظْتُكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، أَخَشِيتَ أَنْ أَنْسَاكَ فِي السِّجْنِ حَتَّى اسْتَعَنْتَ بِغَيْرِي؟ وَقُلْتَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢] ، أَمَا كَانَ رَبُّكَ أَقْرَبَ مِنْكَ وَأَقْدَرَ عَلَى خَلَاصِكَ مِنْ رَبِّ صَاحِبِ السِّجْنِ؟ لَتَلْبَثَنَّ فِيهِ بِضْعَ سِنِينَ. قَالَ يُوسُفُ: وَرَبِّي عَنِّي بِرَاضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا أُبَالِي وَلَوْ إِلَى السَّاعَةِ، كَذَا فِي حَقَائِقِ السُّلَمِيِّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>