للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(٩) بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٤٧٨٣ - «عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

(٩) - بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ

فِي النِّهَايَةِ: الْبَيَانُ إِظْهَارُ الْمَقْصُودِ بِأَبْلَغِ لَفْظٍ، وَهُوَ مِنَ الْفَهْمِ وَذَكَاءِ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ الْكَشْفُ وَالظُّهُورُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الشِّعْرُ مَعْرُوفٌ، وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشِّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ: عَلِمْتُ عِلْمًا فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشِّعْرِ قِيلَ: وَسُمِّي الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، كَالشِّعْرِ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ أَسْمَاءً لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ، وَالشَّاعِرُ لِلْمُخْتَصِّ بِصِنَاعَتِهِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّعْرُ كَلَامٌ مُقَفًّى مَوْزُونٌ قَصْدًا لِيَخْرُجَ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ كَلَامُ النُّبُوَّةِ. قُلْتُ: لَكِنْ يَشْكُلُ مَعَ هَذَا فِي الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ نَفْيِ الْإِرَادَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ وُقُوعَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ كَمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» ".

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٤٧٨٣ - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ) أَيْ: مِنْ جَانِبِهِ. قَالَ الْمَيْدَانِيُّ: هُمَا الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَكَذَا عَنِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي (فَخَطَبَا) أَيْ: بِكَلِمَاتٍ مُحَسَّنَاتٍ جَامِعَةٍ لِلْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ (فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا) أَيْ: وَلِفَصَاحَةِ لِسَانِهِمَا وَغَرَابَةِ شَأْنِهِمَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» ") أَيْ: فِي اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ كَالسِّحْرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ قُدُومِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ فِيهِمُ الزِّبْرِقَانُ وَعَمْرٌو، «فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا سَيِّدُ تَمِيمٍ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَآخُذُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي إِذْنِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَحْسُدُكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَئِيمُ الْخَالِ حَدِيثُ الْمَالِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ حَمِقُ الْوَلَدِ مُضَيِّعٌ فِي الْعِشْرَةِ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ فِيمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ آخِرًا، وَلَكِنِّي رِجْلٌ إِذَا رَضِيتُ قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى جَمِيعًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» قَالَ الْمَيْدَانِيُّ: يُضْرَبُ هَذَا الْمَثَلُ فِي اسْتِحْسَانِ الْمَنْطِقِ وَإِيرَادِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ ذُو وَجْهَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ بِمَنْزِلَةِ السِّحْرِ فِي مَيَلَانِ الْقُلُوبِ لَهُ، أَوْ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مَمْدُوحٌ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْحَقِّ كَمَذَمَّةِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَمَذْمُومٌ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْبَاطِلِ كَمَدْحِهَا مَثَلًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الذَّمِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَمَّ التَّصَنُّعَ فِي الْكَلَامِ وَالتَّكَلُّفَ لِتَحْسِينِهِ لِيَرُوقَ لِلسَّامِعِينَ قَوْلُهُ، وَلِيَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَأَصْلُ السِّحْرِ فِي كَلَامِهِمُ الصَّرْفُ، وَسُمِّيَ السِّحْرُ سِحْرًا؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ، فَهَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِبَيَانِهِ يَصْرِفُ قُلُوبَ السَّامِعِينَ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ صَرْفِ الْكَلَامِ فَضْلُهُ، وَمَا يَتَكَلَّفُ الْإِنْسَانُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ الْحَاجَةِ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ وَيُخَالِطُهُ الْكَذِبُ، وَأَيْضًا قَدْ يُحِيلُ الشَّيْءَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِبَيَانِهِ وَيُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ لِلِسَانِهِ إِرَادَةَ التَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ تَخْيِيلٌ! لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ مِنَ الْبَيَانِ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ صَاحِبُهُ مِنَ الْإِثْمِ مَا يَكْتَسِبُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيُسْحِرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ، فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» . الْحَدِيثَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَدْحُ الْبَيَانِ، وَالْحَثُّ عَلَى تَحْسِينِ الْكَلَامِ وَتَحْبِيرِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ إِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ، فَكَذَلِكَ الْقَرِينَةُ. الْأُخْرَى. وَقَالَ شَارِحٌ: هَذَا وَارِدٌ لِلذَّمِّ أَيْ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ نَوْعًا يَحِلُّ مِنَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ مَحَلَّ السِّحْرِ، فَإِنَّ السَّاحِرَ بِسِحْرِهِ يُزَيِّنُ الْبَاطِلَ فِي عَيْنِ الْمَسْحُورِ، حَتَّى يَرَاهُ حَقًّا، وَكَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِمَهَارَتِهِ فِي الْبَيَانِ، وَتَفَنُّنِهِ فِي الْبَلَاغَةِ وَتَرْصِيفِ النَّظْمِ يَسْلُبُ عَقْلَ السَّامِعِ وَيَشْغَلُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>