(١٣) بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٤٨٩٣ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: " أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ: " فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَخْرُ: وَيُحَرَّكُ التَّمَدُّحُ بِالْخِصَالِ كَالِافْتِخَارِ، وَفَاخَرَهُ مُفَاخَرَةً: عَارَضَهُ بِالْفَخْرِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَصَبِيُّ هُوَ الَّذِي يَغْضَبُ لِعُصْبَتِهِ وَيُحَامِي عَنْهُمْ، وَالْعَصَبَةُ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَهُ وَيَعْتَصِبُ بِهِمْ أَيْ: يُحِيطُونَ بِهِ وَيَشْتَدُّ بِهِمْ، وَمِنْهُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً. قُلْتُ: لِأَنَّهَا مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَلَازُمًا غَالِبِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: ١ - ٢] ، أَيْ: شَغَلَكُمُ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرُ بِالْكَثْرَةِ، حَتَّى وَصَلْتُمْ إِلَى ذِكْرِ أَهَّلِ الْمَقَابِرِ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيِ أَسْهَمَ تَفَاخَرُوا بِالْكَثْرَةِ، فَكَثُرَ سَهْمُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ بَنُو سَهْمٍ: إِنَّ الْبَغْيَ أَهْلَكَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَادُّونَا بِالْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَكَثُرَ بَنُو سَهْمٍ.
٤٨٩٣ - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ» ) أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِهِمْ أَوْ أَوْصَافِهِمْ (أَكْرَمُ؟) أَيْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَسَبُ مَعَ النَّسَبِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَسَبُ فَحَسْبُ، وَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ هَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ» " أَيْ: عَنْ أُصُولِهِمُ الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا، وَكَانَ جَوَابُهُمْ، فَسَلَكَ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ ; حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ، وَقَالَ: " إِذَا فَقُهُوا ". قُلْتُ: لَمَّا أَطْلَقُوا السُّؤَالَ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ صَرْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْفَرْدِ الْأَكْمَلِ وَالْوَصْفِ الْأَفْضَلِ ( «قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ» ) : وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: ١٣] ، وَقَدْ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَنْسَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَارُفِ بِالْوُصْلَةِ، وَأَنَّ الْكَرَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ; لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالْعِبْرَةَ بِمَا فِي الْعُقْبَى، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلِمَ غَرَضَهُمْ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. (قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ) : تَنْزِيلٌ لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَيْسَ سُؤَالُنَا عَنْ هَذَا، عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ:
فَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ الْهَوَى. اهـ.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنِ الْكَرَمِ الْمُطْلَقِ، وَظَنَّ أَنَّ مُرَادَهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ (قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ) أَيْ: مِنْ حَيْثِيَّةِ جَمْعِيَّةِ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ النَّبَوِيَّةِ (يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ) أَيْ: يَعْقُوبُ (ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ) أَيْ: إِسْحَاقَ (ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ) : بِإِثْبَاتِ أَلِفِ ابْنٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيلِ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدِ اجْتَمَعَ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَكَرَمُ الْآبَاءِ وَالْعَدْلُ وَالرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا فِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَدْ يُهْمَزُ وَيُثَلَّثُ سِينُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالضَّمُّ هُوَ الْمَشْهُورُ. ( «قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ» ) أَيْ: قَبَائِلِهِمْ (تَسْأَلُونِّي؟) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهِ ( «قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ» ) أَيْ: هُمْ خِيَارُكُمْ (فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ: فِي زَمَنِهِ (إِذَا فَقُهُوا) : بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: إِذَا عَلِمُوا آدَابَ الشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفِقْهُ بِالْكَسْرِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفِطْنَةُ لَهُ، وَغَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِشَرَفِهِ، وَفَقُهُ كَكَرُمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute