للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَخِلَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ، وَإِلَّا فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» "، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنَّ الْفَضَائِلَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ، فَأَخْبَرَ بِفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ عَلِمَ تَفْضِيلَ نَفْسِهِ فَأَخْبَرَ بِهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخِهِ لِيَدْفَعَ التَّعَارُضَ بِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ بَرِّيَّةِ عَصْرِهِ، فَأَطْلَقَ الْعِبَارَةَ الْمُوهِمَةَ لِلْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ. قُلْتُ: وَمَآلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْضَلُ بَرِّيَّةِ عَصْرِهِ لَيْسَ فِيهِ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، نَعَمْ أَفْضَلِيَّةُ نَبِيِّنَا ثَابِتَةٌ بِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ كَادَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةً، بَلْ إِجْمَاعِيَّةً. مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» ".

وَمِنْهَا حَدِيثُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ". وَمِنْهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي» . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ شَهِيرَةٌ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سِيَادَتِهِ وَزِيَادَتِهِ فِي سَعَادَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَسْطُورَةِ إِشْعَارٌ بِتَأْخِيرِ قَوْلِهِ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» " عَنْ قَوْلِهِ: " «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» " ; لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ، مَعَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يُوجَدُ فِي الْأَخْبَارِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ تَوَاضُعًا، لِيُوَافِقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ، أَوْ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّهُ يُدْعَى بِهَذَا النَّعْتِ حَتَّى صَارَ عَلَمًا لَهُ الْخَلِيلُ، فَقَالَ: " «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» أَيِ: الْمَدْعُوُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ إِبْرَاهِيمُ إِجْلَالًا لَهُ يَعْنِي مِنَ التَّشْرِيكِ، فَيَكُونُ مَعْنَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ رَاجِعًا إِلَى مَنْ خُلِقَ دُونَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْبَرِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غِمَارِهِمُ. اهـ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْتَثْنَى مِنْهُمْ إِمَّا بِطْرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>