للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الرَّاءِ وَقُلِبَتْ أَلِفًا عَلَى لَفْظِ الْعَصَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَ الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْجُعَلِ، وَآبَاءَهُمُ الْمُفْتَخَرَ بِهِمْ بِالْعَذِرَةِ، وَنَفْسُ افْتِخَارِهِمْ بِهِمْ بِالدَّهْدَهَةِ بِالْأَنْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ الْبَتَّةَ، إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَنِ الِافْتِخَارِ أَوْ كَوْنُهُمْ أَذَلَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْجُعْلِ الْمَوْصُوفِ، وَأَغْرَبَ الْقَاضِي ; حَيْثُ قَالَ: (أَوْ) هُنَا لِلتَّخْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنْ يَكُونَ حَالُ آبَائِهِمُ الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِهِمْ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي تَوْصِيفِهِمْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ. اهـ.

وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ مَعَهُ الطِّيبِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَيَنْتَهِيَنَّ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ ضَمِيرُ الْقَوْمِ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: ٨٨] ، كَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ أَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي سُؤَالِهِ ; حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَبْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُهُمْ بِسَبَبِ الْمُفَاخَرَةِ بِآبَائِهِمْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ فَبِمَ عَرَفَ انْتِهَاءَهُمْ عَنْهَا؟ قُلْتُ: لَمَّا نَظَمَهُمَا بِأَوْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحَلِفُ آلَ كَرَمُهُ إِلَى قَوْلِكَ، لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ يَعْنِي: إِنْ كَانَ الِانْتِهَاءُ لَمْ تَكُنِ الْمَذَلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَانَتْ، كَذَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي النَّمْلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُ إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَمَّا هُمْ فِيهِ، أَوْ إِنْزَالُ الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَرَامِ، لَكِنْ وَقَعَ بَسْطٌ فِي الْكَلَامِ.

ثُمَّ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ عِلَّةِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الِافْتِخَارِ بَعْدَ زَوَالِ زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَمَالِ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ) أَيْ: أَزَالَ وَرَفَعَ (عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَتَيْنِ أَيْ: نَخْوَتَهَا وَكِبْرَهَا. (وَفَخْرَهَا) أَيْ: وَافْتِخَارَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي زَمَانِهِمْ (بِالْآبَاءِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ: رَجُلٌ فِيهِ عُبِّيَّةٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: كِبْرٌ وَتَجَبُّرٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَشْدِيدُ الْيَاءِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبِيدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ مِنَ الْعِبْءِ بِمَعْنَى الْحِمْلِ الثَّقِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: بَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَبْءِ وَهُوَ النُّورُ وَالضِّيَاءُ يُقَالُ: هَذَا عَبُّ الشَّمْسِ وَأَصْلُهُ عَبْؤُ الشَّمْسِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّشْدِيدُ فِيهِ كَمَا فِي الذُّرِّيَّةِ مِنَ الذَّرْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَالْجَوْهَرِيُّ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمُضَاعَفِ. قُلْتُ: وَكَذَا فَعَلَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ ; حَيْثُ قَالَ: الْعُبِّيَّةُ بِالْكَسْرِ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ. وَقَالَ أَيْضًا: عَبُّ الشَّمْسِ وَيُخَفَّفُ ضَوْءُهَا، وَذَكَرُهُ فِي الْمَهْمُوزِ أَيْضًا وَقَالَ: الْعَبْءُ بِالْفَتْحِ ضِيَاءُ الشَّمْسِ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الْمُفْتَخِرُ الْمُتَكَبِّرُ بِالْآبَاءِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَإِمَّا هُوَ (مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ) : فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ ; لِأَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (أَوْ فَاجِرٌ) أَيْ: مُنَافِقٌ أَوْ كَافِرٌ (شَقِيٌّ) أَيْ: غَيْرُ سَعِيدٍ، فَهُوَ ذَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالذَّلِيلُ لَا يُنَاسِبُهُ التَّكَبُّرُ، وَلَا يُلَائِمُهُ التَّجَبُّرُ، فَالتَّكَبُّرُ لَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلْخَالِقِ، وَلِذَا قَالَ: " «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ» "، ثُمَّ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَنْتَفِي بِهِ التَّكَبُّرُ عَنِ الْإِنْسَانِ بِقَوْلِهِ: ( «النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ) أَيْ: فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ، أَوْ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا، فَالْكُلُّ إِخْوَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ ; لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً، نَعَمِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ مُبْهَمَةٌ، فَالْخَوْفُ أَوْلَى لِلسَّالِكِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْمَسَالِكِ، هَذَا مَا اخْتَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ خُلَاصَةِ الْمُرَامِ، وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: فِي ضَمِيرِ (هُوَ) وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا فَقَوْلُهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَذَلِكَ تَفْصِيلُهُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التِّمْثَالِ أَكْفَاءُ أَبُوهُمْ آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ

فَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ فِي أَصْلِهِمْ شَرَفٌ ... يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالْمَاءُ

مَا الْفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ ... عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>