قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: أُحِبُّهَا حُبًّا مِثْلَ أَشَدِّ حُبِّ الرِّجَالِ النِّسَاءَ، أَوْ حَالًا أَيْ: أُحِبُّهَا مُشَابِهًا حُبِّي أَشَدَّ حُبِّ الرِّجَالِ النِّسَاءَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: ٧٧] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَشَدَّ خَشْيَةً) حَالٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُشْبِهِينَ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ (فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا) ، فِيهِ تَضْمِينُ مَعْنَى الْإِرْسَالِ أَيْ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهَا طَالِبًا نَفْسَهَا (فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ أَيْ: أَجِيئُهَا (بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَقِيتُهَا) أَيْ: أَتَيْتُهَا (بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ) يَحْتَمِلُ الِاسْمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ (اتَّقِ اللَّهَ) أَيْ: عَذَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ (وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ) بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَكَارَةِ (فَقُمْتُ عَنْهَا) أَيْ: مُعْرِضًا عَنْ تَعَرُّضِهَا (اللَّهُمَّ) : فِيهِ زِيَادَةُ تَضَرُّعٍ (فَإِنْ كُنْتَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ: اللَّهُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ (تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (اللَّهُمَّ) مُقْحَمَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، لِتَأْكِيدِ الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَدَّرُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ (اللَّهُمَّ) فِي هَذِهِ الْقَرِينَةِ دُونَ أُخْتَيْهَا ; لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَصْعَبُ الْمَقَامَاتِ وَأَشَقُّهَا، فَإِنَّهُ رَدْعٌ لِهَوَى النَّفْسِ فَرْقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقَامِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: ٤٠ - ٤١] قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: شَهْوَةُ الْفَرْجِ أَغْلَبُ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَأَصْعَبُهَا عِنْدَ الْهَيَجَانِ عَلَى الْعَقْلِ، فَمَنْ تَرَكَ الزِّنَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْقُدْرَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَتَيَسُّرِ الْأَسْبَابِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ صِدْقِ الشَّهْوَةِ حَازَ دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ، قَوْلُهُ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَ (ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا) أَيْ: زِيَادَةً (فُرْجَةً مِنْهَا) ، أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْكُرَيَّةِ أَوِ الصَّخْرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ أَيْ: بَعْضُ الْفُرْجَةِ (فَفَرَجَ) أَيِ: اللَّهُ (لَهُمْ فُرْجَةً) أَيْ: أُخْرَى (وَقَالَ الْآخَرُ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَالثَّانِي أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ (اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرْقِ أَرُزٍّ) ، بِفَتْحِ هَمْزٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرُزِّ كَأَشُدٍّ وَعُتُلٍّ وَقُفْلٍ وَطُنُبٍ، وَرُزٌّ وَرُنْزٌ وَإِرِزٌ كَإِبِلٍ وَأَرُزٌ كَعَضُدٍ. اهـ. فَفِيهِ لُغَاتٌ بِعَدَدِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالْفَرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْفَرَقُ مِكْيَالٌ بِالْمَدِينَةِ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ وَيُحَرَّكُ، أَوْ هُوَ أَفْصَحُ وَيَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَبِالسُّكُونِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، ثُمَّ قِيلَ: وَفِي رِوَايَةٍ بِفَرَقِ ذُرَةٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مِنْ صِنْفَيْنِ (فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ) أَيْ: عَمِلَ عَمَلَهُ وَانْتَهَى أَجَلُهُ (قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، تَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ) أَيْ: أَعْرَضَ عَنْ أَخْذِهِ لِمَانِعٍ أَوْ بَاعِثٍ (فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ) أَيِ: الْأَرُزُّ (حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْأَرُزِّ أَوْ مِنْ زَرْعِهِ (بَقَرًا وَرَاعِيَهَا) ، أَيْ: قِيمَتَهُمَا فَاشْتَرَيْتُهُمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ فِي مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ، وَطَرِيقِ الْأَمَانَةِ، وَإِرَادَةِ الشَّفَقَةِ حَيْثُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّقْرِيرِ لَا يُقَالُ لَعَلَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ دَفَعَ قِيمَةَ كَبْشٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فَاشْتَرَاهُ بِهَا فَبَاعَهُ بِضِعْفِ ثَمَنِهِ، وَاشْتَرَى كَبْشًا آخَرَ، وَأَتَى بِهِ مَعَ قِيمَتِهِ فَدَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ (فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي) : ظَاهِرُ كَلَامِهِ عُنْفٌ، لَكِنَّ بَاطِنَهُ حَقٌّ وَلُطْفٌ (فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقْرِ وَرَاعِيهَا) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute