وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ الرَّعْيَ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ، فَعُدِّيَ بِعَلَى أَيْ: أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ رَاعِيًا الْغُنَيْمَاتِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ) ضُمِّنَ مَعْنَى رَدَدْتُ أَيْ: إِذَا رَدَدْتُ الْمَاشِيَةَ مِنَ الْمَرْعَى إِلَى مَوْضِعِ مَبِيتِهِمْ (فَحَلَبْتُ) : عَطْفٌ عَلَى رُحْتُ وَقَوْلُهُ: (بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ) جَوَابُ إِذَا وَقَوْلُهُ: (أَسْقِيهِمَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ (قَبْلَ وَلَدِي) ، بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْوَاوِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ أَيْ: أَوْلَادِي، إِمَّا حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْعِلَّةِ (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (قَدْ نَأَى بِي الشَّجَرُ) ، أَيْ: بَعُدَ بِي طَلَبُ الْمَرْعَى يَوْمًا، وَفِي نُسْخَةٍ نَاءَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهُوَ كَرِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: ٨٣] قَالَ النَّوَوِيُّ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: نَأَى بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ قَبْلَ الْأَلِفِ، وَبِهِ قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْ صَحِيحَتَانِ (فَمَا أَتَيْتُ) أَيْ: إِلَيْهِمْ لِبُعْدِ الْمَرْعَى عَنْهُمْ (حَتَّى أَمْسَيْتُ) أَيْ: دَخَلْتُ فِي الْمَسَاءِ جِدًّا (فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا) ، أَيْ: مِنَ الضَّعْفِ أَوْ مِنْ غَلَبَةِ الِانْتِظَارِ وَكَثْرَةِ الْإِبْطَاءِ (فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ) ، بِضَمِّ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (فَجِئْتُ) أَيْ: إِلَيْهِمَا (بِالْحِلَابِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي يُحْلَبُ فِيهِ، قِيلَ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْحِلَابِ هُنَا اللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، فَيَكُونُ مَجَازًا بِذِكْرِ الْمَحَلِّ لِإِرَادَةِ الْحَالِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَتَى بِالْحِلَابِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْلُوبُ اسْتِعْجَالًا (فَقُمْتُ) أَيْ: وَقَفْتُ (عَلَى رُؤُوسِهِمَا) أَيْ: عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا) ، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (وَأَكْرَهُ) يَعْنِي: أَيْضًا (أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا) أَيْ: مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ نَائِمِينَ لِأَجْلِ الْجُوعِ (وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ مِنَ الْجُوعِ (عِنْدَ قَدَمَيَّ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ (دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ) بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ عَادَتِي وَعَادَتُهُمْ، وَالضَّمِيرُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالصِّبْيَةِ (حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ) ، انْشَقَّ الصُّبْحُ وَظَهَرَ نُورُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حِينَئِذٍ سَقَيْتُهُمَا أَوَّلًا، ثُمَّ سَقَيْتُهُمْ ثَانِيًا تَقْدِيمًا لِإِحْسَانِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْمَوْلُودِينَ لِتَعَارُضِ صِغَرِهِمْ بِكِبَرِهِمَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْكَبِيرَ يَبْقَى كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِذَلِكَ أَبْلَاهُ اللَّهُ بِمَا هُنَالِكَ (فَإِنْ كُنْتَ) أَيْ: يَا أَللَّهُ (تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ) ، وَالتَّرْدِيدُ فِي أَنَّ عَمَلَهُ ذَلِكَ هَلِ اعْتُبِرَ عِنْدَ اللَّهِ لِإِخْلَاصٍ فِيهِ أَوْ لَا لِعَدَمِهِ (فَافْرُجْ) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِ قَطْعٍ وَكَسْرِ رَاءٍ. قَالَ مِيرَكُ: بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ الرَّاءِ مِنَ الْفَرَجِ، وَيَجُوزُ بِهَمْزِ الْقَطْعِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِفْرَاجِ أَيِ: اكْشِفْ (لَنَا فُرْجَةً) بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُفْتَحُ (نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ) بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ: كَشَفَ (اللَّهُ لَهُمْ حَتَّى يَرَوْنَ السَّمَاءَ) بِإِثْبَاتِ النُّونِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ شَرْحِ السُّنَّةِ، فَيَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ كَقَوْلِكَ: شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَخْرُجَ بَطْنُهُ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِسْقَاطِهِ، وَحِينَئِذٍ يُضَمُّ الْوَاوُ وَصَلًا لِلِالْتِقَاءِ.
(قَالَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أُحِبُّهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ مُؤَنَّثٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. اهـ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي كَلَامِ الْأَوَّلِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ وَالثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهَا، وَالثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي، وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ، وَإِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَفِي الثَّانِي لِلْقِصَّةِ وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ فِي امْرَأَةٍ. اهـ. فَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ وَقَعَتْ أَنَّهَا فِي كَلَامِ الثَّانِي خِلَافَ الْمِشْكَاةِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ الْمِشْكَاةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ لَفْظًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَعْنًى (كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ) ، أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: ١٦٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute