للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِالْعَفِيفِ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَبِالْمُتَعَفِّفِ إِلَى إِبْرَازِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ وَاسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لِإِظْهَارِ الْعِفَّةِ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِذِ اسْتَقْرَيْتَ أَحْوَالَ الْعِبَادِ عَلَى اخْتِلَافِهَا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَيَحِقَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ) إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَتِهِمْ (الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَا رَأْيَ وَلَا عَقْلَ كَامِلًا يَعْقِلُهُ، وَيَمْنَعُهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ وَرَدَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» ، وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّبْرُ الْعَقْلُ وَالْكَمَالُ وَالصَّبْرُ وَالِانْتِهَارُ وَالْمَنْعُ وَالنَّهْيُ. اهـ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ فِي الْمَعْنَى.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: لَا عَقْلَ لَهُ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ يُقَالُ: مَا لَهُ زَبْرٌ أَيْ عَقْلٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَرَى الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ يُفَسَّرَ بِالتَّمَاسُكِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ لَا زَبْرَ لَهُ أَيْ: لَا تَمَاسُكَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَمَاسُكَ لَهُ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّهَوَاتِ، فَلَا يَرْتَدِعُ عَنْ فَاحِشَةٍ وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ حَرَامٍ. قُلْتُ: التَّمَاسُكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَحَاصِلٌ بِالصَّبْرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا.

وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّ الشَّيْخَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ) قِسْمٌ آخَرُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَعْنِي بِهِ الْخُدَّامَ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي ; حَيْثُ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ يُرِيدُ بِهِ الْخُدَّامَ الَّذِينَ لَا مَطْمَحَ لَهُمْ وَلَا مَطْمَعَ إِلَّا مَا يَمْلَأُونَ بِهِ بُطُونَهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَا تَتَخَطَّى هِمَمُهُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّعِيفَ وَصْفٌ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ تَارَةً بِالْمُفْرَدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ أُخْرَى بِالْجَمْعِ، أَوِ الْمَوْصُولُ الثَّانِي بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعَاطِفِ كَمَا فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْأَشْرَفِ ; حَيْثُ قَالَ: الَّذِي فِي قَوْلِ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ الَّذِي جَوَّزَ جَعْلَ قَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ. اهـ كَلَامُهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيَتَعَيَّنُ تَقْسِيمُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. أَحَدُهَا: الضَّعِيفُ، وَثَانِيهَا: الْخَائِنُ، وَثَالِثُهَا: رَجُلٌ، وَرَابِعُهَا: الْبَخِيلُ، وَخَامِسُهَا: الشِّنْظِيرُ. تَمَّ كَلَامُ الطِّيبِيِّ.

وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي مَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِهِ قِسْمًا آخَرَ، وَهُمَا أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُخَالِفَا النَّصَّ عَلَى الْخَمْسِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْعَاطِفِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِتَفْسِيرَيْهِمَا عَلَى مَا تَوَهَّمَ الْفَاضِلُ، إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصْفِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، بَلِ الثَّانِي مُمَيِّزٌ لِلْأَوَّلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ هُوَ جِنْسُ الضَّعِيفِ فِي أَمْرِ دِينِهِ النَّاقِصُونَ فِي عُقُولِهِمُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ (لَا يَبْغُونَ أَهْلًا) أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ زَوْجَةً وَلَا سُرِّيَّةً، فَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَلَالِ وَارْتَكَبُوا الْحَرَامَ (وَلَا مَالًا) أَيْ: وَلَا يَطْلُبُونَ مَالًا حَلَالًا مِنْ طَرِيقِ الْكَدِّ وَالْكَسْبِ الطَّيِّبِ، فَقِيلَ: هُمُ الْخَدَمُ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِالشُّبَهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا عَمَّا أُبِيحَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَاعِيَةٌ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَدُورُونَ حَوْلَ الْأُمَرَاءِ وَيَخْدِمُونَهُمْ، وَلَا يُبَالُونَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ، لَيْسَ لَهُمْ مَيْلٌ إِلَى أَهْلٍ وَلَا إِلَى مَالٍ، بَلْ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، ثُمَّ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عَلَى مَعْنَى لَا زَبْرَ لَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ قِسْمًا آخَرَ أَوْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَوْلُهُ: تَبَعٌ هُوَ الْأَصْلُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ تَابِعٍ كَخَدَمٍ جَمْعُ خَادِمٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: تَبَعٌ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مَرْفُوعٌ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الظَّرْفُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُمْ، وَفِي بَعْضِهَا مَنْصُوبٌ كَمَا فِي الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ. اهـ. وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يُتْبِعُونَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ مِنَ الِاتِّبَاعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>