للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سَلَكَ مَعَ السَّائِلِ طَرِيقَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ ; لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، فَقِيلَ لَهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا؟ وَإِنَّمَا يَهُمُّكَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأُهُبَّتِهَا، وَتَعْتَنِي بِمَا يَنْفَعُكَ عِنْدَ إِرْسَالِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اهـ. وَبَعْدَهُ مِنَ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى لَا يَخْفَى. (قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: بَعْدَ فَرَحِهِمْ بِهِ أَوْ دُخُولِهِمْ فِيهِ (فَرَحَهُمْ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: كَفَرَحِهِمْ (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَهِيَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَلْحَقَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحُسْنِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ عَمَلٍ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اهـ. وَلَا يَخْلُو عَنْ إِيهَامٍ وَإِبْهَامٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ لَا تَحْصُلَ الْمَعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الْمَحَبَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُتَابَعَةِ، بَلْ تَتَوَقَّفُ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ، وَزِيَادَةِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لِأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِيَ وَمَوْتَكَ عَرَفْتَ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَتْ: " {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: ٦٩] » " فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ أَنْ تَحْصُلَ فِيهَا الْمُلَاقَاةُ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ، لَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ.

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَاءَوْنَ أَوْ تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ الطَّالِعِ فِي تُفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُولَئِكَ النَّبِيُّونُ. قَالَ: " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» " يَعْنِي وَأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيقَانِهِمْ وَتَحْقِيقِهِمْ.

ثُمَّ جَاءَ فِي حَدِيثِ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْمُلَاقَاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، «عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: ١٣] الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فَضْلٌ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، وَكَيْفَ لَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْجَنَّةِ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْأَعَلِّينَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ فَيَجْتَمِعُونَ فِي رِيَاضِهَا فَيَذْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ لَهُمْ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ فَيَسْعَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ» ". ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ وَالْمُوَاجَهَةَ وَالْمُجَامَلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>