(١٩) بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٥٠٦٧ - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ لِعَائِشَةَ: " عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» ".
[١٩]
بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ
الرِّفْقُ: بِالْكَسْرِ ضِدُّ الْعُنْفِ وَهُوَ الْمُدَارَاةُ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَلِينُ الْجَانِبِ وَاللُّطْفُ فِي أَخْذِ الْأَمْرِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَيْسَرِهَا، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَقَالَ الْحُكَمَاءُ: هُوَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُلَامُ بِهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: حَالَةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْ رُؤْيَةِ الْآلَاءِ وَالتَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ النَّعْمَاءِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: هُوَ تَرْكُ الدَّعْوَى بَيْنَ يَدَيِ الْمَوْلَى، وَأَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ فَقَالُوا: هُوَ الْإِنْصَافُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَبَذْلُ الْإِحْسَانِ وَالْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ هُوَ الِاتِّبَاعُ بِمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِ الطَّرِيقَةِ، وَأَحْوَالِ الْحَقِيقَةِ، وَلِذَا «لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَارِدِ فِي حَقِّهِ " {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤] " فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ» تَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَ يَتَّصِفُ بِهَا وَكُلُّ فِعْلَةٍ مَذْمُومَةٍ فِيهِ يَجْتَنِبُ عَنْهَا، ثُمَّ الِاتِّبَاعُ بِقَدْرِ الْمَحَبَّةِ وَتَوْفِيقُ الْمُتَابَعَةِ بِأَخْذِ كُلِّ سَهْمِهِ وَنَصِيبِهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي وَصْفِهِ لِلْقُرَّاءِ:
أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى ... حُلَاهُمْ بِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ مُفَصَّلًا.
٥٠٦٧ - (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ) أَيْ: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، يُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ، فَيُسَامِحُهُمْ وَلَا يُكَلِّفُ فَوْقَ وُسْعِهِمْ، أَوْ يُحِبُّ أَنْ يَرْفُقَ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (يُحِبُّ الرِّفْقَ) أَيْ: يَرْضَى بِهِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ (وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ) أَيِ: الْمَثُوبَاتِ وَالْمَآرِبَ أَوْ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَطَالِبِ (مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ) : بِالضَّمِّ فِي الْقَامُوسِ هِيَ مُثَلَّثَةُ الْعَيْنِ ضِدُّ الرِّفْقِ (وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) أَيْ: سُوءِ الرِّفْقِ، وَهُوَ الْعُنْفُ، فَفِي الْكَلَامِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَأْكِيدٌ لِلْحُكْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا سِوَى الرِّفْقِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَسَنَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الرَّفِيقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ أَيْضًا عَلَى قَصْدِ الِاسْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ عَنْهُ تَمْهِيدًا لِلْحُكْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَرْفُقُ عِبَادَهَ فِي أُمُورِهِمْ فَيُعْطِيهِمْ بِالرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِيهِمْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرِّفْقَ أَنْجَحُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا وَأَنْفَعُهَا بِأَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا طَالِبَ الرِّزْقِ الْهَنِيِّ بِقُوَّةٍ ... هَيْهَاتَ أَنْتَ بِبَاطِلٍ مَشْغُوفُ
أَكَلَ الْعُقَابُ بِقُوَّةٍ جِيفَ الْفَلَا ... وَرَعَى الذُّبَابُ الشَّهْدَ وَهُوَ ضَعِيفُ
وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَحْرِصَ فِي رِزْقِهِ، بَلْ يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي تَوَلَّى الْقِسْمَةَ فِي خَلْقِهِ، فَالنِّسْرُ يَأْكُلُ الْجِيفَةَ بِعُنْفِهِ، وَالنَّحْلُ يَرْعَى الْعَسَلَ بِرِفْقِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللَّهُ الطَّبِيبُ؟ قُلْنَا: الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفُ، وَلَمْ يَرِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ نَفْيَ هَذَا الِاسْمَ عَمَّنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَوَّلَ الْمَعْنَى مِنَ الطَّبِيعَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي يَرْجُونَ مِنَ الطَّبِيبِ فَاللَّهُ فَاعِلُهُ، وَالْمَنَّانُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ: وَلَيْسَ الطَّبِيبُ بِمَوْجُودٍ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا الرَّفِيقُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الدُّعَاءِ يَا طَبِيبُ وَلَا يَا رَفِيقُ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الطَّبِيبُ وَهُوَ رَفِيقٌ عَلَى مِنْوَالِ مَا وَرَدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ كَلَامِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّهُ، وَأَنْ يُرَادَ لَهُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَّا بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ سَمَّاهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ إِذْنٌ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute