للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[٢٠] بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٥١٠٤ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي. قَالَ: " لَا تَغْضَبْ ". فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا قَالَ: " لَا تَغْضَبْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[٢٠] بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ

قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْغَضَبُ فَوَرَانُ دَمِ الْقَلْبِ أَوْ عَرَضٌ يَتْبَعُهُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ، وَلِلِانْتِقَامِ بَعْدَ وُقُوعِهَا. فَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: " «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» " مَجَازٌ أَيْ: يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ الْمَلِكُ إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الِانْتِقَامِ لِإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ، وَأَمَّا الْكِبْرُ فَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْحَالَةُ الَّتِي يَتَخَصَّصُ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ إِعْجَابِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَعْظَمُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِذْعَانِ لِلْعِبَادَةِ، وَالِاسْتِكْبَارُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَحَرَّى الْإِنْسَانُ أَنْ يَصِيرَ كَبِيرًا، وَذَلِكَ مَتَى كَانَ عَلَى مَا يُحَبُّ فَهُوَ الْمَحْمُودُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَتَشَبَّعَ فَيُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَيْسَ لَهُ فَهُوَ الْمَذْمُومُ كَقَوْلِهِ: أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَالْمُتَكَبِّرُ أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ، إِمَّا مَحْمُودٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُ الْحَسَنَةُ كَثِيرَةً زَائِدَةً فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَحَاسِنِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُتَكَبِّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: ٢٣] أَوْ مَذْمُومٌ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُتَكَلِّفًا مُتَشَبِّعًا لِذَلِكَ، وَهَذَا وَصْفُ عَامَّةِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: ٧٢] وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْكِبْرُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ يُقَالُ تَكَبُّرٌ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرُ يُقَالُ فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ، فَالْأَصْلُ هُوَ الْخُلُقُ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الِاسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إِلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبِّرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ لِيَرَى نَفْسَهُ فَوْقَهُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمُتَكَبِّرًا بِهِ، وَبِهِ يُفْصَلُ الْكِبْرُ عَنِ الْعُجْبِ، فَإِنَّ الْعُجْبَ لَا يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ بِهِ، بَلْ لَوْ لَمْ يُخْلُقْ إِلَّا وَحْدَهُ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ مُعْجَبًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرًا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٥١٠٤ - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا) : هُوَ ابْنُ عُمَرَ أَوْ حَارِثَةُ بْنُ قُدَامَةَ أَوْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي) أَيْ: أَرْشِدْنِي بِخُصُوصِي إِلَى عُمُومِ مَا يَنْفَعُنِي دِينًا وَدُنْيَا وَيُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (قَالَ: " لَا تَغْضَبْ " فَرَدَّدَ) أَيِ: الرَّجُلُ السُّؤَالَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (مِرَارًا) أَيْ: ثَلَاثًا أَوْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى رَجَاءَ أَنْ يَضُمَّ مَعَهُ إِيصَاءً آخَرَ (قَالَ: لَا تَغْضَبْ) : قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْغَضَبُ مِنْ نَزَعَاتِ الشَّيْطَانِ يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ صُورَةً وَسُرَّةً حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْبَاطِلِ وَيَفْعَلَ الْمَذْمُومَ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَيَنْوِيَ الْحِقْدَ وَالْبُغْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الَّتِي كُلُّهَا مِنْ أَثَرِ سُوءِ الْخُلُقِ، بَلْ قَدْ يَكْفُرُ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ مَعَ إِلْحَاحِ السَّائِلِ مُرِيدًا لِلزِّيَادَةِ أَوِ التَّبْدِيلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: حَسِّنْ خُلُقَكَ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَالْحَدِيثُ مِنْ بَدَائِعِ الْكَلِمِ، ثُمَّ عِلَاجُهُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِأَنْ يَرَى الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ، وَيُذَكِّرَ نَفْسَهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ أَعْظَمُ وَفَضْلَهُ أَكْثَرُ، وَكَمْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِ، وَيَتَعَوَّذَ وَيَتَوَضَّأَ وَيَشْغَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكَاشِفًا بِأَوْضَاعِ الْخَلْقِ عَارِفًا بِأَدْوَائِهِمْ يَضَعُ الْهَنَا مَوْضِعَ النَّقْبِ يَأْمُرُهُمْ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَوْصَاهُ الرَّجُلُ وَقَدْ رَآهُ مَمْلُوءًا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ لَمْ يَرَ لَهُ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَتَجَنَّبَ عَنْ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَيُزَحْزِحَ نَفْسَهُ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَتَعْتَرِيهِ إِنَّمَا تَعْرُضُ لَهُ مِنْ فَرْطِ شَهْوَتِهِ وَاسْتِيلَاءِ غَضَبِهِ، وَالشَّهْوَةُ مَكْثُورَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقْتَضِيهُ الْغَضَبُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى التَّجَنُّبِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ مَظَانِّهَا نَهَاهُ عَنِ الْغَضَبِ الدَّاعِي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا وَأَكْثَرَ وِزْرًا، فَإِنَّ ارْتِفَاعَ السَّبَبِ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ مُسَبِّبَاتِهِ لَا مَحَالَةَ.

قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَبَيَانٌ مُسْتَحْسَنٌ إِلَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَدَارَ الْغَضَبِ عَلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْضَبُ غَضَبًا مَذْمُومًا إِلَّا بِتَوَهُّمِ فَوْتِ شَهْوَةٍ لَهُ أَوْ بَعْدَ تَحَقُّقِ فَرْقًا، وَلِهَذَا تَرَى كُلَّ مَا كَانَ شَهْوَتُهُ أَكْثَرَ كَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ يَكُونُ غَضَبُهُ أَكْبَرَ، وَيَجُبُّ عَنْهُ الْحَذَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ قُدَامَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ عَنْ رَجُلٍ وَلَفْظُهُ: لَا تَغْضَبْ، فَإِنَّ الْغَضَبَ مَفْسَدَةٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ» .

<<  <  ج: ص:  >  >>