للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. قُلْتُ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الثَّمَرَاتِ الْقَوِيَّةَ وَالضَّعِيفَةَ إِذَا انْتَفَتْ كَانَ الْإِيمَانُ كَالْمَعْدُومِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْحَدِيثُ دَلِيلًا لِلْخَصْمِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ مِنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ، لَا يُقَالُ هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ، هَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ أَمْ لَا؟ بَلِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ وَجَوْهَرَهُ لَا يَتَجَزَّأُ، أَوْ إِنَّمَا كَمَالُهُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ وُجُودُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ عَطَفَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: ٢٧٧] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْأَعْمَالِ جُزْءَ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً، فَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَهَذَا بَحْثٌ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْعَقَائِدِ وَمَبَاحِثُ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ حَرَامًا وَجَبَ الزَّجْرُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا نُدِبَ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا تَبَعٌ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَإِنْ وَجَبَ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ نُدِبَ فَمَنْدُوبٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ شَامِلٌ لَهُ، إِذِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَضِدُّ الْمَنْهِيِّ إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ وَالْكُلُّ مَعْرُوفٌ، وَشَرْطُهُمَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفِتْنَةِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَنْ يُظَنَّ قَبُولُهُ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ فَيُسْتَحْسَنُ إِظْهَارُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَفْظُ مَنْ لِعُمُومِهِ شَمِلَ كُلَّ أَحَدٍ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا إِذَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَقْبَحُ ذَلِكَ فِي الْفَاسِقِ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢] وَأَنْشَدَ:

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ مَرِيضُ

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ: " فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ " هُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدَّيْنُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ الرَّوَافِضِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي: لَا نَكْتَرِثُ بِخِلَافِهِمْ، وَوُجُوبُهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَفَعَلَهُ وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْمُخَاطَبُ، فَلَا عَتْبَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا هُوَ، أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهِ إِلَّا هُوَ، وَكَمَنَ يَرَى زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ غُلَامَهُ عَلَى مُنْكَرٍ. قَالُوا: وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِظَنِّهِ أَنْ لَا يُفِيدَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ؟ قَالُوا: وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَلَى آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاةَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ وَتَرْكِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى التَّشَاغُلِ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّيْءِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مُدْخَلٌ فِيهِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَى ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ، لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبٌ، وَيَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَرْفُقَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ هَذَا الْبَابَ بَابٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ بِهِ قِوَامُ الْأَمْرِ وَمِلَاكُهُ، فَإِذَا فَسَدَ عَمَّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ وَالظَّالِمَ. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: ٢٥] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>