للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْقَلْبِ حَتَّى ضَاقَ، وَانْكَمَدَ، وَهَلِ السِّجْنُ إِلَّا تَضْيِيقٌ وَحَجْزٌ مِنَ الْخُرُوجِ وَالْوُلُوجِ، فَكُلَّمَا هَمَّ الْقَلْبُ بِالتَّبَرُّؤِ عَنْ مَشَائِمِ الْأَهْوَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ عَنْ قُيُودِ الشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ تَسَبُّبًا إِلَى الْآجِلَةِ، وَتَنَزُّهًا فِي فَضَاءِ الْمَلَكُوتِ، وَمَشَاهَدَةً لِلْجَمَالِ الْأَزَلِيِّ حَجَزَهُ الشَّيْطَانُ الْمَرْدُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمَطْرُودِ بِالِاحْتِجَابِ، فَيُدْلَى بِحَسَبِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ إِلَيْهِ، فَكَدَّرَ صَفْوَ الْعَيْشِ عَلَيْهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِ طَبْعِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السُّجُونِ وَأَضْيَقِهَا، فَإِنَّ مَنْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: ١١٨] الْآيَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَلْمَانَ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَفْظُهُ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ» ". وَالسَّنَةُ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْقَحْطُ وَالْجَدَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: ( «إِنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْكَافِرِ وَسِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ حِينَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي سِجْنٍ فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَفَسَّحُ فِيهَا» ) . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: ( «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَالْقَبْرَ أَمْنُهُ، وَالْجَنَّةَ مَصِيرُهُ. يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْكَافِرِ، وَالْقَبْرَ عَذَابُهُ، وَالنَّارَ مَصِيرُهُ» ) . وَرَوَى ابْنُ لَالَ عَنْ عَائِشَةَ: الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِمُؤْمِنٍ، كَيْفَ وَهِيَ سِجْنُهُ وَبَلَاؤُهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>