وَقِيلَ: هِيَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ لَهُ عَلَمَانِ أَرَادَ بِهِ مُحِبَّ كَثْرَةِ الثِّيَابِ النَّفِيسَةِ وَالْحَرِيصَ عَلَى التَّحَمُّلِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، تَعِسَ ذَمُّ التَّقَيُّدِ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً، وَعَدَمُ التَّعَلُّقِ بِتَخْلِيَةِ الْبَاطِنِ عَنِ الْأَوْصَافِ الدَّنِيَّةِ وَتَحْلِيَتُهَا بِالنُّعُوتِ الرَّضِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ، ثُمَّ تَطْوِيلُ الْأَكْمَامِ وَجَرُّ الْأَذْيَالِ حَرَامٌ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَمَكْرُوهٌ إِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللِّبْسُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ فِي اخْتِيَارِ التَّكَلُّفِ وَالتَّقَشُّفِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢] الْآيَةَ. وَاخْتَلَفَ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، وَمُخْتَارُ الشَّاذِلِيَّةِ، وَالنَّقْشَبَنْدِيَّةِ وَالْبِكْرِيَّةِ التَّلَبُّسُ بِلِبَاسِ الْأَغْنِيَاءِ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ فَرْقَدًا السَّبَخِيَّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ فَجَعَلَ يَلْمِسُهَا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي؟ ثِيَابِي ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ. بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُهُمْ بِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ لَهَا خَبَرٌ أَوْ دُعَاءٌ عَلَى مَنِ اسْتَعْبَدَهُ حُبُّ الدُّنْيَا، وَاسْتَرَقَّهُ الْهَوَى، وَأَعْرَضَ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَوْلَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:
أَتَمَنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالًا ... أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرٍّ
وَلَمْ يَقُلْ صَاحِبُهَا إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يَكُونُ أَسِيرًا لِجَمْعِ الْمَالِ بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي حَقَّ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ. (إِنْ أُعْطِيَ) أَيْ: هَذَا التَّعِيسُ (رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: غَضِبَ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ وَانْقِلَابِ حَالِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَانْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: ٥٨] الْآيَةَ. وَكَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَئَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: ١١] (تَعِسَ) : كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ لِلتَّشْدِيدِ قَوْلَهُ: (وَانْتَكَسَ) أَيْ: صَارَ ذَلِيلًا (وَإِذَا شِيكَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: دَخَلَ شَوْكٌ فِي عُضْوِهِ (فَلَا انْتُقِشَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ، أَوْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخْرِجُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ لَا يُرْحَمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: تَعِسَ إِذَا عَثَرَ وَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْعَيْنُ وَهُوَ دُعَاءُ عَلَيْهِ بِالْخَيْبَةِ لِأَنَّ مَنِ انْتَكَسَ فِي أَمْرِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، وَإِذَا شِيكَ أَيْ: إِذَا شَاكَتْهُ شَوْكَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَاشِهَا، وَهُوَ إِخْرَاجُهَا بِالْمِنْقَاشِ، وَالْخَمِيصَةُ: ثَوْبُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمٍ، وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى خَمِيصَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَوْدَاءَ مُعْلَمَةً وَكَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ قَدِيمًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ خُصَّ الْعَبْدُ بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَنَ بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا خَلَاصَ لَهُ عَنْ أَسْرِهِ، وَلَمْ يُقِلْ: مَالِكُ الدِّينَارِ وَلَا جَامِعُ الدِّينَارِ ; لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الدُّنْيَا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَا قَدْرَ الْحَاجَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، يُؤْذِنُ إِلَى شِدَّةِ حِرْصِهِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَطَمَعِهِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَفِي قَوْلِهِ: " تَعِسَ وَانْتَكَسَ " صَنْعَةٌ لِتَرْدِيدٍ مَعَ التَّرَقِّي أَعَادَ تَعِسَ الَّذِي هُوَ الِانْكِبَابُ عَلَى الْوَجْهِ لِيَضُمَّ مَعَهُ الِانْتِكَاسَ الَّذِي هُوَ الِانْقِلَابُ عَلَى الرَّأْسِ، لِيَتَرَقَّى فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: " إِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ " عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ فَلَا يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ إِذَا تَرَحَّمَ لَهُ النَّاسُ رُبَّمَا هَانَ الْخَطْبُ عَلَيْهِ، وَتَسَلَّى بَعْضَ التَّسَلِّي، وَهَؤُلَاءِ بِخِلَافِهِ، بَلْ يُرِيدُ غَيْظَهُمْ بِفَرَحِ الْأَعْدَاءِ وَشَمَاتَتِهِمْ، وَإِنَّمَا خُصَّ انْتِقَاشُ الشَّوْكِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الِانْتِقَاشَ أَسْهَلُ مَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ لَمَّا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ نَفَى ذَلِكَ الْأَهْوَنَ فَيَكُونُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مَنْفِيًّا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (طُوبَى) أَيْ: حَالَةٌ طَيِّبَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ وَالْجَنَّةُ (لِعَبْدٍ) أَيْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute