الِاحْتِمَالِ فَتَنْفَتِقُ أَمْعَاؤُهَا فَتَهْلِكُ، كَذَلِكَ الَّذِي يَجْمَعُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا، وَيَمْنَعُ ذَا الْحَقِّ حَقَّهُ يَهْلِكُ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ النَّارِ، وَأَمَّا مَثَلُ الْمُقْتَصِدِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ " وَذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَتْ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهَا الْمَاشِيَةُ، وَلَكِنَّهَا مِنْ كَلَأِ الصَّيْفِيِّ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَشِيمِ الْبُقُولِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِكْثَارٍ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا، وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا فَهُوَ يَنْجُو مِنْ وَبَالِهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، إِنَّ الْمُقْتَصِدَ الْمَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ جَاوَزَ حَدَّ الِاقْتِصَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَقَرُبَ مِنَ السَّرَفِ الْمَذْمُومِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: أَكَلَتْ حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتُهَا، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ قَرِيبٍ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَا يَلْبَثُ عَلَيْهِ، بَلْ يَلْتَجِئُ إِلَى الدَّلَائِلِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ الدَّافِعَةِ لِلْحِرْصِ الْمُهْلِكِ الْقَامِعَةِ لَهُ، وَهُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، فَحَذَفَ مَا حَذَفَ مِنَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْمَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاقْتِصَادِ وَالْقُرْبِ مِنْ حَدِّ الْإِسْرَافِ مَرَّةً بَعْدَ أُولَى، وَثَانِيَةً بَعْدَ أُخْرَى لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ وَقُوَّتِهَا فِيهِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَبْعُدَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْحَدِّ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ الْإِسْرَافُ، وَيَقْرُبُ مِنَ الِاقْتِصَادِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْمَحْمُودُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ لَكِنْ يَجِبُ التَّأْوِيلُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ شَيْئًا يَقْتُلُ آكِلَهُ إِلَّا الْخَضِرَ مِنْهُ إِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ آكِلُهُ وَتَحَرَّى دَفْعَ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْهَلَاكِ. (وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ) أَيِ: الْمَحْسُوسَ فِي الْبَالِ (خَضِرَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حُلْوَةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ لِزِيَادَةِ الْمَذَاقِ وَالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، إِذِ التَّقْدِيرُ أَنَّ زَهْرَةَ هَذَا الْمَالِ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَلِكَ نَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا خَضِرٌ حُلْوٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى تَأْنِيثِ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَيْ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ شَيْءٌ كَالْخَضِرِةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضِرَةِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى فَائِدَةِ الْمَالِ أَيْ: أَنَّ الْحَيَاةَ بِهِ أَوِ الْمَعِيشَةَ خَضِرَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْمَالِ بِالدُّنْيَا، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ زِينَتَيِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: ٤٦] فَيُوَافِقُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " «الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ» . . " عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ اهـ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ مُشَبَّهٌ بِالْمَرْعَى الْمُشْتَهَاةِ لِلْأَنْهَامِ (فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ) أَيْ: بِقَدْرِ احْتِيَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ حِلِّهِ (وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِ الْوَاجِبِ أَوْ نَدَبَهُ (فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ) أَيْ: مَا يُعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُدْفَعُ بِهِ ضَرُورَاتُ الْمُؤْنَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَعُونَةِ الْوَصْفُ مُبَالَغَةً أَيْ: فَنِعْمَ الْمُعِينُ عَلَى الدِّينِ. (هُوَ) أَيِ: الْمَالُ، وَنَظِيرُ مَا وَرَدَ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ، (وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ وَجَمَعَهُ مِنْ حَرَامٍ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ (كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) : فَيَقَعُ فِي الدَّاءِ الْعُضَالِ وَالْوَرْطَةِ الْمُهْلِكَةِ لِغَلَبَةِ الْحِرْصِ كَالَّذِي بِهِ جُوعُ الْبَقَرِ، وَكَالْمَرِيضِ الَّذِي لَهُ الِاسْتِسْقَاءُ حَيْثُ مَا يُرْوَى، وَكُلَّمَا يَشْرَبُ يَزِيدُ عَطَشًا وَانْتِفَاخًا (وَيَكُونُ) أَيِ: الْمَالُ (شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: حُجَّةً عَلَيْهِ يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَى حِرْصِهِ وَإِسْرَافِهِ، وَأَنَّهُ أَنْفَقَهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ لِعِبَادِ اللَّهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِثَالُ الْمَالِ مِثَالُ الْحَيَّةِ الَّتِي فِيهَا تِرْيَاقٌ نَاقِعٌ وَسُمٌّ نَافِعٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا الْمُعَزِّمُ الَّذِي يَعُودُ وَجْهُ الِاحْتِرَازِ عَنْ شَرِّهَا وَطَرِيقِ اسْتِخْرَاجِ تِرْيَاقِهَا كَانَتْ نِعْمَةً، وَإِنْ أَصَابَهَا السَّوَادِيُّ الْغَبِيُّ فَهِيَ عَلَيْهِ بَلَاءٌ مُهْلِكٌ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ الْخَوَاجَةُ عُبَيْدُ اللَّهِ النَّقْشَبَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الدُّنْيَا كَالْحَيَّةِ، فَكُلُّ مَنْ يَعْرِفُ رُقْيَتَهَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا، وَإِلَّا فَلَا. فَقِيلَ وَمَا رُقْيَتُهَا؟ فَقَالَ: أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ يَأْخُذُهَا وَفِي أَيْنَ يَصْرِفُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute