الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَالتَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَسَحَ عَنْهُ عَرَقًا كَعَرَقِ أَثَرِ الْحُمَّى تَرْحَضُ الْجَسَدَ أَيْ: تَغْسِلُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. (وَقَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ " وَكَأَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَمِدَهُ) أَيْ: حَمِدَ السَّائِلَ وَاسْتَحْسَنَهُ فِي سُؤَالِهِ لِكَوْنِهِ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ لِنَفْعِ الْعِبَادِ وَالْعُبَّادِ (فَقَالَ: " إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ) أَيْ: حَقِيقَةً لِتَنَافِيهِمَا، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْخَيْرُ سَبَبًا لِلشَّرِّ، فَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِقَوْلِهِ المُنَاسِبِ لِتَعْبِيرِ الْخَيْرِ بِالزَّهْرَةِ حَيْثُ قَالَ: (وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ) أَيْ: بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَلْقِ أَسْبَابِهِ وَآلَتِهِ (مَا يَقْتُلُ) أَيْ: نَبَاتًا أَوْ شَيْئًا يُهْلِكُ الدَّوَابَّ (حَبَطًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: انْتِفَاخَ بَطْنٍ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَهُوَ تَمْيِيزٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ حَقِيقَةً (أَوْ يُلِمُّ) : بِضَمِّ يَاءٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ، أَيْ: يَكَادُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَقْرُبُ أَنْ يُهْلِكَ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ خِيَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ الْمَاشِيَةُ لَاسْتَطَابَتِهَا إِيَّاهُ حَتَّى تُنْفَخَ بُطُونُهَا عِنْدَ مُجَاوَزَتِهَا حَدَّ الِاعْتِدَالِ، فَتَنْفَتِقَ أَمْعَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ فَتَمُوتَ أَوْ تَقْرُبَ الْمَوْتَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَضْرَابَ الْعُشْبِ فَهِيَ كُلُّهَا خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرُّ مِنْ قِبَلِ إِفْرَاطِ الْأَكْلِ، فَكَذَلِكَ الْمُفْرِطُ فِي جَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، أَوْ مِنَ الْحَلَالِ الْمُشْغِلِ عَنْ حَالِهِ يُكْثِرُ فِي التَّنَعُّمِ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي مَآلِهِ، فَيَقْسُو قَلْبُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، فَيُورِثُ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ فَيَتَكَبَّرُ وَيَتَجَبَّرُ وَيُقِرُّ النَّاسَ، وَيَمْنَعُ ذَا الْحَقِّ مِنْهَا، فَحَيْثُ آلَ مَآلُ الْمَالِ لِهَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِعَذَابِهِ فِي الْعُقْبَى يَصِيرُ سَبَبَ الْوَبَالِ وَشَدَّةَ النَّكَالِ وَسُوءَ الْحَالِ. (إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ الطَّرِيُّ الْغَضُّ مِنَ النَّبَاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ خُضْرَةٍ، وَرُوِيَ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ، وَالْمَعْنَى يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ كُلَّ آكِلِهِ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالْبَيَانِ الْمَسْطُورِ لِقَوْلِهِ: (أَكَلَتْ) أَيِ: الْمَاشِيَةُ الْآكِلَةُ الْمُفْرِطَةُ أَكْلَهَا (حَتَّى امْتَدَّتْ) أَيِ: امْتَلَأَتْ وَشَبِعَتْ (خَاصِرَتَاهَا) أَيْ: جَنْبَاهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الشِّبَعِ بِامْتِدَادِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَمْتَدَّانِ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْبَطْنِ (اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ) أَيْ: ذَاتَهَا وَقُرْصَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بَرَكَتْ مُسْتَقْبِلَةً إِلَيْهَا تَسْتَمْرِئُ بِذَلِكَ مَا أَكَلَتْ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: تَرَكَتِ الْأَكْلَ وَلَمْ تَأْكُلْ مَا فَوْقَ طَاقَةِ كِرْشِهَا حَتَّى تَقْتُلَهَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى مَسْقَطِ ضَوْئِهَا وَاسْتَرَاحَتْ فِيهِ. (فَثَلَطَتْ) أَيْ: أَلْقَتْ رَوْثَهَا رَقِيقًا سَهْلًا (وَبَالَتْ) أَيْ: فَزَالَ عَنْهَا الْحَبَطُ (ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ) أَيْ: ثُمَّ إِذَا حَصَلَ لَهَا خِفَّةٌ وَاحْتَاجَتْ إِلَى الْأَكْلِ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، كَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ مَا فِي الْمَالِ حَتَّى الْحُقُوقِ، وَعَالَجَ نَفْسَهُ بِالِاحْتِمَاءِ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَغْنِيَاءِ، وَعَرَفَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ خَيْرًا لَهُ، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْخَطَرُ فِيهِ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَضُرُّ السَّالِكِينَ بِحَسَبِ الْأَغْلَبِ اخْتَارَ اللَّهُ لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ طَرِيقَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ أَجْمَعُهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ وَمَرَامُ الْمَقَامِ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ لُغَةً وَحَلًّا مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، فَفِي النِّهَايَةِ: الْحَبَطُ بِالتَّحْرِيكَ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: حَبِطَتِ الدَّابَّةُ تُحْبِطُ حَبَطًا بِالتَّحْرِيكَ إِذَا أَصَابَتْ مَرْعًى طَيِّبًا، فَأَفْرَطَتْ فِي الْأَكْلِ حَتَّى تَنْتَفِخَ فَتَمُوتَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ الْمَاشِيَةُ، وَيُلِمُّ أَيْ: يَقَرُبُ وَيَدْنُو مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْخَضِرُ بِكَسْرِ الضَّادِ نَوْعٌ مِنَ الْبُقُولِ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِهَا وَجَيِّدِهَا وَإِنَّمَا تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي إِذَا لَمْ تَجِدْ غَيْرَهَا فَلَا تُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا وَلَا تَسْتَمْرِئُهَا.
قَالَ الْقَاضِي: آكِلَةَ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَقْتُلُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ آكِلَهُ إِلَّا آكِلَ الْخَضِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ مِنَ الْمُثْبَتِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَرَأْتُ إِلَّا يَوْمَ كَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ لِوُقُوعِهِ فِي الْكَلَامِ الْمُثْبَتِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْكَشَّافِ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ فِيهِ لِأَنَّ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا بَعْضُ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لِدَلَالَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ وَالتَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آكِلَ الْخَضِرِ غَيْرَ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا، يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَفِيهِ مَثَلَانِ، ضُرِبَ أَحَدُهُمَا لِلْمُفْرِطِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا، وَضُرِبَ الْآخَرُ لِلْمُقْتَصِدِ فِي أَخْذِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا فَهُوَ مَثَلٌ لِلْمُفْرِطِ الَّذِي يَأْخُذُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهَا الْمَاشِيَةُ، حَتَّى يَنْتَفِخَ بُطُونُهَا لِمَا قَدْ جَاوَزَتْ حَدَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute