٥٢٧٤ - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
٥٢٧٤ - (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ جَسَدِي) أَيْ: بِمَنْكِبِي كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَنُكْتَةُ الْأَخْذِ تَقْرِيبُهُ إِلَيْهِ وَتَوَجُّهُهُ عَلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ فِي ذِهْنِهِ مَا يُلْقَى لَدَيْهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّضِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بِالْجَدْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ (قَالَ: " كُنْ ") أَيْ: عِشْ وَحِيدًا وَعَنِ الْخَلْقِ بَعِيدًا (" فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ مُؤَانَسَتِكَ بِهِمْ وَقِلَّةِ مُجَالَسَتِكَ مَعَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ: لَا تَرْكَنْ إِلَيْهَا وَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا وَلَا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إِلَّا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ انْتَهَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ مُرُورٍ وَجِسْرُ عُبُورٍ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنْ يَنْتَظِرَ الْمُسَافَرَةَ عَنْهَا سَاعَةً فَسَاعَةً مُتَهَيِّئًا لِأَسْبَابِ الِارْتِحَالِ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ، مُشْتَاقًا إِلَى الْوَطَنِ الْحَقِيقِيِّ، قَانِعًا فِي سَفَرِهِ بِبُلْغَةٍ وَسُتْرَةٍ، مُسْتَقْبِلًا لِلْبَلِيَّاتِ الْكَثِيرَةِ فِي سَفَرِهِ، غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِمَا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَمَلِ الطَّوِيلِ وَالْحِرْصِ الْكَثِيرِ (" أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ") أَيْ: مُسَافِرٌ لِطَرِيقِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ لِلتَّرَقِّي، وَالْمَعْنَى بَلْ كُنْ كَأَنَّكَ مَارٌّ عَلَى طَرِيقٍ قَاطِعٌ لَهَا بِالسَّيْرِ وَلَوْ بِلَا رَفِيقٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْغُرْبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْكُنُ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ، وَيُقِيمُ فِي مَنْزِلٍ مُدَّةَ زَمَنِهِ، فَلِلَّهِ دُرُّ طَائِفَةٍ رَفَضُوا الدُّنْيَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى الْعُقْبَى شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ الْمَوْلَى، وَاعْتَزَلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ عَلَامَةُ الْإِفْلَاسِ، وَتَجَرَّدُوا عَمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَثْقَالِ وَالْإِلْبَاسِ، بَلْ صَارُوا حُفَاةً عُرَاةً حَاسِرِي الرَّأْسِ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ الْأَكْيَاسُ الْخَارِجُ فَضْلُهُمْ عَنْ حَدِّ الْحُدُودِ وَمِقْيَاسِ الْقِيَاسِ:
إِنْ لِلَّهِ عِبَادًا فُطُنَا ... طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا
نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَرَفُوا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا ... صَالِحَ الْأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا
(" وَعُدَّ نَفْسَكَ ") : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: اجْعَلْهَا مَعْدُودَةً (" فِي أَهْلِ الْقُبُورِ ") أَوْ عُدَّهَا كَائِنَةً أَوْ سَاكِنَةً فِيهِمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: " مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ " أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَوَاحِدَةٌ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُوَ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَلَفَظُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَنْكِبَيَّ فَقَالَ " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» " وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ: " «وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ» " بَلْ هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. أَقُولُ: وَفِي الْجَامِعِ: " «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. زَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: " «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» " وَزَادَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَزَادَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ قَوْلَهُ: «فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا» ، وَجَعَلَ صَدْرَ الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا بِأَنْ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: " إِذَا أَصْبَحْتَ " إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute