أَيْ: قِيَامًا بِحَقِّ الْعِلْمِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، فَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ الْجَامِعِ: وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، وَيُمْكِنُ رُجُوعُ كُلٍّ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَأَفْرَدَهُ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ أَيْ: بِحَقِّ الْمَالِ، وَالْمَعْنَى يُؤَدِّي مَا فِي الْمَالِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالنَّفَقَةِ وَإِطْعَامِ الضَّيْفِ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلَّهِ أَيْ: بِحَقِّ اللَّهِ الْوَاجِبِ فِي الْمَالِ (" فَهَذَا ") أَيِ: الْعَبْدُ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذُكِرَ (" بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ") أَيْ: فِي أَكْمَلِ مَرَاتِبِ الشَّمَائِلِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْعُقْبَى (" وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ") أَيْ: ظَاهِرُهُ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الطَّوِيَّةِ (" يَقُولُ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ (" لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ") أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ (" فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ") . وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٍ (" وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَتَخِبَّطُ ") : بِكَسْرِ الْخَاءِ بِدُونِ فَهُوَ، فَهُوَ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَالْمَعْنَى يَقُومُ وَيَقْعُدُ بِالْجَمْعِ وَالْمَنْعِ (" فِي مَالِهِ ") : أَوْ يَخْتَلِفُ فِي حَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْإِنْفَاقِ وَالْإِمْسَاكِ فِي مَالِهِ (" بِغَيْرِ عِلْمٍ ") أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِعْمَالِ عِلْمٍ بِأَنْ يُمْسِكَ تَارَةً حِرْصًا وَحُبًّا لِلدُّنْيَا، وَيُنْفِقَ أُخْرَى لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، (" لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ") أَيْ: لِعَدَمِ عِلْمِهِ فِي أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ (" وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ") ، أَيْ: لِقِلَّةِ رَحْمَتِهِ وَعَدَمِ حِلْمِهِ وَكَثْرَةِ حِرْصِهِ وَبُخْلِهِ (" وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ بِحَقٍّ ") أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَبِعِبَادِهِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا (" فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ ") أَيْ: مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ (" فَهُوَ نِيَّتُهُ ") أَيْ: فَهُوَ مَغْلُوبُ نِيَّتِهِ، وَمَحْكُومُ طَوِيَّتِهِ، أَوِ الْحَمْلُ بِطَرِيقِ الْمُبَالِغَةِ، فَكَأَنَّهُ عَيَّنَ نِيَّتَهُ كَرَجُلٍ عَدْلٍ. وَفِي نُسْخَةٍ: فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَا فِي الْجَامِعِ أَيْ: مُجْزًى بِهَا وَمُعَاقَبٌ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ إِثْمَهُ بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ دُونَ إِثْمِ الْعَامِلِ الْمُشْتَمِلِ عَمَلُهُ عَلَى النِّيَّةِ وَالْمُبَاشَرَةِ أَكَّدَ الْوَعِيدَ وَشَدَّدَ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: (" وَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ") : وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهُوَ نِيَّتُهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ: يُسِيءُ النِّيَّةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا إِلَى آخِرِهِ، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: صَادِقُ النِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا إِلَى آخِرِهِ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ: وَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ مُتَقَابِلَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَافِي خَبَرَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ» " لِأَنَّهُ عَمِلَ هُنَا بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، وَالْمُتَجَاوَزُ عَنْهُ هُوَ الْقَوْلُ النَّفْسَانِيُّ، انْتَهَى. وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ بِفِعْلِهَا، فَإِنْ عَزَمَ وَاسْتَقَرَّ يُكْتَبْ مَعْصِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ: وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْغَضَبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَدْرَ الْحَدِيثِ فَقَطْ وَلَفْظُهُ: " «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ قَطُّ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلَا عَفَا رَجُلٌ مَظْلِمَةً ظُلِمَهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِهَا عِزًّا، فَاعْفُوا يَزِدْكُمُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مُرَكَّبٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ جَمَعَهُمَا الرَّاوِي وَجَعَلَهُمَا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ عَنِ الْأَنْمَارِيِّ: ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: بَابَ فَقْرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا إِلَخْ. فَالتَّفْسِيرَاتُ الْمُحْتَاجَةُ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute