للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَمْ وَلَوْ وَلَيْتَ تُوَرِّثُ الْقَلْبَ انْفِلَاقًا. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، أَيْ: أَنَّ قَوْلَ لَوْ وَاعْتِقَادَ مَعْنَاهَا يُفْضِي بِالْعَبْدِ إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ، أَوْ عَدَمِ الرِّضَا بِصُنْعِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقَدَرَ إِذَا ظَهَرَ بِمَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ قَالَ: لَوْ فَعَلْتُ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا، وَقَدْ قُدِّرَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ إِلَّا الَّذِي فُعِلَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا الَّذِي كَانَ، وَقَدْ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَمْ يُرِدْ كَرَاهَةَ اللَّفْظِ بِلَوْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَسَائِرِ الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا عَنَى الْإِتْيَانَ بِهَا فِي صِيغَةٍ تَكُونُ فِيهَا مُنَازَعَةُ الْقَدَرِ وَالتَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَقَدَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: ١٥٤] . وَفِي الْحَدِيثِ: " «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ» " لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مُنَازَعَةَ الْقَدَرِ.

وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ أَيْ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِي وَكُنْتُ مُسْتَبِدًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فِيهِ تَأَسُّفٌ عَلَى الْفَائِتِ، وَمُنَازَعَةٌ لِلْقَدَرِ وَإِيهَامٌ بِأَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِاسْتِبْدَادِهِ، وَمُقْتَضَى رَأْيِهِ خَيْرٌ مِمَّا سَاقَهُ الْقَدَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَوْ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فِيمَا مَضَى، وَلِذَلِكَ اسْتَكْرَهَهُ وَجَعَلَهُ مِمَّا يَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ " وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ " لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قُصِدَ بِهِ تَطْيِيبُ قُلُوبِهِمْ وَتَحْرِيضِهِمْ عَلَى التَّحَلُّلِ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ قَالَهُ مُعْتَقَدًا ذَلِكَ حَتْمًا، وَأَمَّا «قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ رَأْسَهُ لَرَآنَا» ، فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذَا» " وَشِبْهُ ذَلِكَ لَا اعْتِرَاضَ فِيهِ عَلَى قَدَرٍ، فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ اعْتِقَادِهِ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ لَوْلَا الْمَانِعُ وَعَمَّا هُوَ فِي قُدْرَتِهِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ، وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، أَنَّهُ يُلْقِي فِي الْقَلْبِ مُعَارَضَةَ الْقَدَرِ وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُ " لَوْ " فِي الْمَاضِي كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ» " فَالظَّاهِرُ إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَيَكُونُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ مُتَأَسِّفًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ هُوَ مُعْتَذِرٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ " لَوْ " الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَحَادِيثِ.

أَقُولُ: بَلِ التَّأَسُّفُ عَلَى فَوْتِ طَاعَةِ اللَّهِ مِمَّا يُشَابُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، فَقَدْ رَوَى الرَّازِيُّ فِي مَشْيَخَتِهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مَنْ أَسِفَ عَلَى دُنْيَا فَاتَتْهُ اقْتَرَبَ مِنَ النَّارِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَمَنْ أَسِفَ عَلَى آخِرَةٍ فَاتَتْهُ اقْتَرَبَ مِنَ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَلَفْظُ الْجَزَرِيِّ فِي الْحِصْنِ: وَمَنْ وَقَعَ لَهُ مَا لَا يَخْتَارُهُ فَلَا يَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا أَيْ: لَكَانَ كَذَا وَكَذَا - وَلَوْ لِلتَّمَنِّي - وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بِقَدِرِ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ السُّنِّيِّ، لَكِنَّ لَفْظَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ: قَدَّرَ اللَّهُ مَوْضِعُ بِقِدَرِ اللَّهِ، وَقَدْ ضُبِطَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، وَبِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ بِالرَّفْعِ مُضَافًا، وَأَيْضًا لَفْظُهُمَا صَنَعَ بَدَلُ فَعَلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ الْأَشْجَعِيِّ مَرْفُوعًا: " «مَنْ غَلَبَهُ أَمْرٌ فَلْيَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ".

<<  <  ج: ص:  >  >>