فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَلَا يُتْرَكُ السُّؤَالُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْمَقَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ، إِذِ السُّؤَالُ إِظْهَارُ شَعَائِرِ الِانْكِسَارِ، وَالْإِقْرَارُ بِسَمْتِ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ وَالْإِفْلَاسِ عَنْ ذُرْوَةِ الْقُوَّةِ وَالطَّاقَةِ إِلَى حَضِيضِ الِاسْتِكَانَةِ وَالْفَاقَةِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ:
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
(" وَإِذَا اسْتَعَنْتَ ") أَيْ: أَرَدْتَ الِاسْتِعَانَةَ فِي الطَّاعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (" فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ") : فَإِنَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. (" وَاعْلَمْ ") : زِيَادَةُ حَثٍّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالتَّقَرُّبِ بِالِاسْتِفَادَةِ لَدَيْهِ (" أَنَّ الْأُمَّةَ ") أَيْ: جَمِيعَ الْخَلْقِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ (" لَوِ اجْتَمَعَتْ ") أَيِ: اتَّفَقَتْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (" عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ ") أَيْ: فِي أَمْرِ دِينِكَ أَوْ (لَمْ يَنْفَعُوكَ) أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ (إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ) أَيْ: قَدَّرَهُ، وَأَثْبَتَهُ فِي الذِكْرِ وَفَرَغَ مِنْهُ، وَقَدْ أَذِنَهُمْ فِي ذَلِكَ (" وَلَوِ اجْتَمَعُوا ") : وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِينَ هُنَا بِلَفْظِ: وَإِنِ اجْتَمَعُوا، فَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ لَفْظَةَ لَوْ فِيمَا سَبَقَ بِمَعْنَى إِنْ إِذِ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} [النساء: ٩] فَنُكْتَةُ الْعُدُولِ هُوَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى الْإِمْدَادِ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ بِخِلَافِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْإِيذَاءِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ، وَلِذَا قِيلَ:
الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْهُ عَنِ الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ فِي الِاعْتِقَادِ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ وَالضَّرِّ بِدُونِ الْمَشِيئَةِ مِنَ الْمُحَالِ، فَإِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالِاخْتِلَافِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ، وَاخْتِيَارُ لَوْ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى أَوْلَى ; لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمُحَالِيَةِ، وَوُقُوعُ أَنْ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا مَعَ اسْتِفَادَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا (" عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ ") أَيْ: مِنْ سَلْبِ نَفْعٍ أَوْ جَلْبِ ضُرٍّ (" لَمْ يَضُرُّوكَ ") أَيْ: لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَضُرُّوكَ (" إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ") وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّكَ وَحَدُّ اللَّهِ فِي الْمَطْلَبِ وَالْمَهْرَبِ، فَهُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ وَالْمُعْطِي الْمَانِعُ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَقْطَعَنَّ مَنْ يُؤَمِّلُ غَيْرِي، وَأُلْبِسَنَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَأُجَنِّبَنَّهُ مِنْ قُرْبِي، وَلَأُبْعِدَنَّهُ مِنْ وَصْلِي، وَلَأَجْعَلَنَّهُ مُتَفَكِّرًا حَيْرَانَ يُؤَمِّلُ غَيْرِي فِي الشَّدَائِدِ، وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَيَطْرِقُ بِالْفِكْرِ أَبْوَابَ غَيْرِي، وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْأَبْوَابِ، وَهِيَ مُغْلَقَةٌ وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي» ، هَذَا وَأَوْرَدَ اللَّامَ فِي جَانِبِ النَّفْعِ ; لِأَنَّهُ لِلْمِلْكِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاخْتِصَاصُ النَّافِعُ. وَقَوْلُهُ: " {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧] " مَجَازٌ فِي صُورَةِ الضَّرِّ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (" رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ ") أَيْ: مِنْ كِتَابَةِ الْأَحْكَامِ (" وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ") أَيْ: نَشَفَتْ مَا دُوِّنَ فِيهَا مِنْ أَقْضِيَةِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يُوضَعُ عَلَيْهَا قَلَمٌ بَعْدُ بِتَدْوِينِ شَيْءٍ وَتَغْيِيرِ أَمْرٍ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كُتِبَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ، وَلَا يُكْتَبُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَعَبَّرَ عَنْ سَبْقِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ بِرَفْعِ الْقَلَمِ، وَجَفَافِ الصَّحِيفَةِ تَشْبِيهًا بِفَرَاغِ الْكَاتِبِ فِي الشَّاهِدِ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَدِيثُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَحَدِيثُ جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ أَيْ: مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ» ، وَجَفَافُ الْقَلَمِ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، لَا يُقَالُ: هَذَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: ٣٩] لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ أَيْضًا مِمَّا جَفَّتِ الصُّحُفُ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ قِسْمَانِ: مُبْرَمٌ وَمُعَلَّقٌ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَمَّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فَلَا تَبْدِيلَ وَلَا تَغْيِيرَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: ٣٩] وَقِيلَ: عِنْدَ اللَّهِ كِتَابَانِ اللَّوْحُ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute