الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَالَّذِي يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيَّ: احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: تَحَبَّبَ إِلَيْهِ بِحِفْظِ أَحْكَامِهِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ سَبَبُ الْمَحَبَّةِ - يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ - بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ: يُجَازِكَ فِيهَا - وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ - أَيْ: جَاوَزَ عَنْكَ النِّعْمَةَ وَالرَّخَاءَ وَالشِّدَّةَ وَالْبَلَاءَ، وَأَصْلُ الْخَطَأِ الْعُدُولُ عَنِ الْجِهَةِ - لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ - أَيْ: مُحَالٌ أَنْ يُصِيبَكَ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْ حَيْثُ دُخُولِ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ عَلَى الْخَبَرِ وَتَسْلِيطِ النَّفْيِ عَلَى الْكَيْنُونَةِ وَسِرَايَتِهِ فِي الْخَبَرِ - وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ - فِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَنَفْيِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ عَنْهُ، إِذْ مَا مِنْ حَادِثَةٍ مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ وَعُسْرٍ وَيُسْرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضَرٍّ، وَأَجَلٍ وَرِزْقٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ، فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ، فَيَجِبُ الشُّكْرُ فِي حَالِ السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرُ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ قَائِلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: ٧٨]- وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ - أَيْ: عَلَى الْأَعْدَاءِ - مَعَ الصَّبْرِ - أَيْ: عَلَى الْمِحَنِ وَالْبَلَاءِ -، وَأَنَّ الْفَرَجَ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْغَمِّ مَعَ الْكَرْبِ، أَيِ الْغَمِّ الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفَسِ النَّفْسِ، وَلِذَا وَرَدَ:
اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: ٦] قَالَ شَارِحٌ: وَقَدْ وَقَعَتِ الْآيَةُ فِي الْقُرْآنِ مُكَرَّرَةً لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ عُسْرٌ إِلَّا مَعَهُ يُسْرَانِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمُعَادَةَ غَيْرُ الْأُولَى، وَالْمَعْرِفَةَ الْمُعَادَةَ عَيْنُ الْأُولَى، لَكِنَّهَا غَالِبِيَّةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ} [آل عمران: ٢٦] لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالثَّانِيَةَ لِلْجِنْسِ الَّذِي يَحْصُلُ بِوُجُودِهِ فَرْدٌ مِنْهُ، ثُمَّ قِيلَ مَعَ بِمَعْنَى بَعْدَ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَعْنَى، وَإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَبْنَى حَيْثُ قَصَدَ مُعَاقَبَةَ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَاتِّصَالَهُ بِهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْمُقَارِنِ لِزِيَادَةٍ فِي التَّسْلِيَةِ وَالتَّنْفِيسِ، عَلَى أَنَّ الْمِحَنَ لَا تَخْلُو عَنِ الْمِنَحِ، بَلْ إِنَّهَا عَيْنُهَا {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: ٤٩] ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: ٣٥] هَذَا وَقَدْ قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ وَالْغَوْثُ الصَّمَدَانِيُّ السَّيِّدُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - فِي فُتُوحَاتِ الْغَيْبِ: يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنَّ يَجْعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مِرْآةَ قَلْبِهِ وَشِعَارَهُ وَدِثَارَهُ وَحَدِيثَهُ، فَيَعْمَلَ بِهِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ حَتَّى يَسْلَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجِدَ الْعِزَّةَ فِيهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ تُجَاهَكَ فِي رِوَايَةِ رَزِينٍ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» ، وَفِي آخِرِهِ: «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَالْحَدِيثُ بِطُولِهِ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فِي النِّهَايَةِ: مَعْنَى تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ أَيِ: اجْعَلْ تَعَرُّفَكَ بِطَاعَتِكَ وَالْعَمَلِ فِيمَا أَوْلَاكَ مِنْ نِعْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُجَازِيكَ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْعُسْرِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْعَهْدِ، وَالتَّنْكِيرَ فِي " يُسْرًا " لِلنَّوْعِ، فَيَكُونُ الْعُسْرُ وَاحِدًا وَالْيُسْرُ اثْنَيْنِ، فَالْعُسْرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعِبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا، وَالْيُسْرُ فِي الدُّنْيَا الْفَتْحُ وَالنُّصْرَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَفِي الْعُقْبَى الْفَوْزُ بِالْحُسْنَى وَلِقَاءُ الْأَحِبَّاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute