للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ") ، قِيلَ: مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالْأَظْهَرُ: مِنْ عَامِلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ; لِئَلَّا يَكُونَ تَكْرَارًا فِي قَوْلِهِ: (" هُوَ ") أَيْ: ذَلِكَ الْعَمَلُ (" لِلَّذِي عَمِلَهُ ") أَيْ: لِأَجْلِهِ، مِمَّنْ قَصَدَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ هُوَ لِفَاعِلِهِ، يَعْنِي: تَرَكْتُ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَفَاعِلُهُ لَا أَقْبَلُهُ، وَلَا أُجَازِي فَاعِلَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِي، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ حِينَئِذٍ مُبَاحًا، مَعَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى وَجْهِ الْإِشْرَاكِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَيُعَاقَبُ فَاعِلُهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَتَأَمَّلْ. وَلْنَذْكُرْ بَقِيَّةَ كَلَامِ الشُّرَّاحِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَعْنِي أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مِنْ غَنِيَ بِهِ عَنْهُ غُنْيَةً، أَيِ: اسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُ، وَإِضَافَتُهُ إِمَّا لِلزِّيَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيْ: أَنَا غَنِيٌّ مِنْ بَيْنِ الشُّرَكَاءِ، وَإِمَّا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، أَيْ: أَنَا أَكْثَرُ الشُّرَكَاءِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الشِّرْكِ ; لِكَوْن اسْتِغْنَائِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي مَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ، وَالْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْبَيَانِ، أَوْ عَلَى زَعْمِ الْقَوْمِ، وَفِيهِ أَنَّ وَجْهَ الْإِضَافَةِ لِلْبَيَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ الْبَيَانِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا غَنِيٌّ مِمَّا بَيْنَهُمْ دُونَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَرَكْتُهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشِّرْكِ الشَّرِيكُ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَعْنَاهُ أَنَا غَنِيٌّ عَنِ الْمُشَارَكَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلْهُ، بَلْ أَتْرُكُهُ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْعَامِلِ، وَالْمُرَادُ بِالشِّرْكِ: الشَّرِكَةُ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَعُودُ إِلَى الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْعَامِلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَيِ: الْعَامِلِ لِمَا عَمِلَ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ، يَعْنِي: يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ عَنْهُ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: أَنَا أَغْنَى مِنْ كُلِّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرِيكِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: ١٤] فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ إِذَا وَقَعَ لَهُمْ سَهْمٌ مَعَ الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُسَامِحُونَهُمْ بِهِ، وَيُعْطُونَهُمْ إِيَّاهُ، أَوْ يَهَبُونَهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَفْقَرِهِمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا وَصْفَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الضُّعَفَاءِ، فَكَيْفَ بِالَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَهُ وَصْفُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، هَذَا وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

الْأُولَى: وَهِيَ أَغْلَطُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُهُ الثَّوَابَ أَصْلًا، كَالَّذِي يُصَلِّي بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ لَا يُصَلَّى، بَلْ رُبَّمَا يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ النَّاسِ، فَهَذَا جَرَّدَ قَصْدَهُ لِلرِّيَاءِ فَهُوَ الْمَمْقُوتُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ قَصْدُ الثَّوَابِ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَصْدًا ضَعِيفًا، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ فِي الْخَلْوَةِ لَكَانَ لَا يَفْعَلُهُ، وَلَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْقَصْدُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّوَابُ لَكَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ، فَقَصْدُ الثَّوَابِ فِيهِ لَا يَنْفِي عَنْهُ الْمَقْتَ.

وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الثَّوَابِ وَالرِّيَاءِ مُتَسَاوِيَيْنِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ وَاحِدٌ خَالِيًا عَنِ الْآخَرِ لَمْ يَبْعَثْهُ عَلَى الْعَمَلِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا انْبَعَثَتِ الرَّغْبَةُ، وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ رَأْسًا بِرَأْسٍ.

وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ اطِّلَاعُ النَّاسِ مُرَجِّحًا مُقَوِّيًا لِنَشَاطِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَتْرُكِ الْعِبَادَةَ، وَلَوْ كَانَ قَصَدَ الرِّيَاءَ وَحْدَهُ لَمَا أَقْدَمَ، فَالَّذِي نَظُنُّهُ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ أَصْلَ الثَّوَابِ، وَلَكِنَّهُ يُنْقِصُ مِنْهُ، أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الرِّيَاءِ، وَيُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الثَّوَابِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ " فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا تَسَاوَى الْقَصْدَانِ، أَوْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ أَرْجَحَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ الرِّوَايَةَ الْأُولَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>