لَمْ يَعْلَمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَتِهِ، سَقَطَ مِنْهُ فَاعِلُ تَرُوحُ، فَالْتَبَسَ الْمَعْنَى عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ: يَرُوحُ عَلَيْهِمْ رِجَالٌ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا السَّهْوُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ ; لِأَنَّا وَجَدْنَا النُّسَخَ سَائِرَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَيَضَعُ الْعِلْمَ سَقَطَ كَلِمَةٌ وَهِيَ (عَلَيْهِمْ) ، انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، مِنْ أَنَّ الْحِرَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَأَصْلُهُ الْحِرْحُ، فَحُذِفَتِ الْحَاءُ الْأَخِيرَةُ، وَجَمْعُهُ أَحْرَاحٌ، وَالْحِرُ: الْفَرْجُ، يَعْنِي: قَدْ يَكُونُ جَمَاعَةٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَزْنُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ حَلَّ مِنْهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ، وَيَقُولُونَ: الْمَرْأَةُ مِثْلُ الْبُسْتَانِ، فَكَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ أَنْ يُبِيحَ ثَمَرَةَ بُسْتَانِهِ لِمَنْ شَاءَ، فَكَذَلِكَ لِلزَّوْجِ أَنَّ يُبِيحَ زَوْجَتَهُ لِمَنْ شَاءَ، وَالَّذِينَ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ هُمُ الْحِرَفِيُّونَ وَالْمَلَاحِدَةُ، وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتَلَفَ نُسَخُ الْمَصَابِيحِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَحَدِهِمَا فِي الْحِرِ فَإِنَّهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي قَوْلُهُ: يَرُوحُ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ بِسَارِحَتِهِ لَهُمْ، فَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هَكَذَا، وَفِي بَعْضِهَا يَرُوحُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ رَجُلٍ، وَالرَّجُلُ مَذْكُورٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَأَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نُزُولُ الْفِتَنِ، وَمَسْخُ الصُّوَرِ، فَلْيَجْتَنِبِ الْمُؤْمِنُ الْمَعَاصِيَ ; كَيْلَا يَقَعَ فِي الْعَذَابِ وَمَسْخِ الصُّوَرِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ: أَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا فَقَدْ صُحِّفَ إِلَى آخِرِهِ، فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَعْدَ مَا رَوَى: يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ، بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، قُلْتُ: مُعَارَضَةُ الْخَصْمِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا، قَالَ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ الْحَرْبِيُّ فِي بَابِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ لَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ وَخَيْرَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ غَضٌّ يُسْتَحَلُّ فِيهِ الْحَرُ وَالْحَرِيرُ» "، يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْحَرَامِ مِنَ الْفُرُوجِ، وَهَذَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ فِي بَابِ الْخَزِّ وَلِبَاسِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَبَيَّنَاهُ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ كَلَامُهُ أَيْ: كَلَامُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي بَابِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، قُلْتُ: كَوْنُهُ حَدِيثًا آخَرَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ مُؤَيِّدٌ لِلْمُنَازَعِ فِيهِ، بَلْ نَصٌّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ إِذَا ثَبَتَ صِحَّتُهُ، وَالْأَصْلُ تَوَافُقِ الْأَحَادِيثِ لِأَنَّ بَعْضَهَا يُفَسِّرُ بَعْضًا، لَا سِيَّمَا وَالْخَزُّ بِالزَّايِ لَيْسَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِحْلَالُهُ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ ابْنَ عَسَاكِرَ رَوَى عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «أَوْشَكَ أُمَّتِي أَنْ تَسْتَحِلَّ فُرُوجَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيرَ» .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: وَالْخَزُّ لَمْ يُحَرَّمْ حَتَّى يُسْتَحَلَّ، فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ نَهَى عَنْ رُكُوبِ الْخَزِّ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، وَالْخَزُّ الْمَعْرُوفُ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، وَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَقَدْ لَبِسَهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهَا لِأَجْلِ التَّشَبُّهِ بِالْعَجَمِ وَزِيِّ الْمُتْرَفِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْخَزِّ النَّوْعُ الْآخَرُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْآنَ، فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ مَعْمُولٌ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ، تَمَّ كَلَامُهُ، أَيْ: كَلَامُ ابْنِ الْأَثِيرِ، وَفِيهِ أَنَّ كَوْنَ الرُّكُوبِ عَلَى الْخَزِّ وَفِرَاشِهِ مَكْرُوهًا، مَعَ أَنَّ الْحَرِيرَ كَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ اسْتِبَاحَتَهُ كُفْرٌ يُوجِبُ الْعَذَابَ، لَا سِيَّمَا وَالْخَزُّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحَاتِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا عَلَى مَا تُعُورِفَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ حَمْلِ الْخَزِّ عَلَى الْإِبْرَيْسَمِ، فَيُعَدُّ كَلَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُقُوعِ تَكْرَارِهِ مَعَ صَرِيحِ لَفْظِ الْحَرِيرِ، وَالْأَصْلُ التَّغَايُرُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُعْطَفُ الْحَرِيرُ عَلَى الْخَزِّ، وَالْأَوَّلُ مَكْرُوهٌ، وَالثَّانِي حَرَامٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَيْفَ يُحَرَّمُ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُصْطَلَحًا حِينَئِذٍ؟ وَالْجَوَابُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute