عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ إِلَى التَّغْلِيبِ لِإِرَادَةِ التَّغْلِيظِ، قُلْتُ: التَّغْلِيبُ تَغَلُّبٌ وَعَنْ ظَاهِرِهِ تَقَلُّبٌ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ مُعْجِزَةً، قُلْتُ: عَطْفُ الْبَيَانِ مُسَلَّمٌ لَوْ كَانَ الْخَزُّ فِي زَمَنِهِ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرِيرِ، وَأَمَّا جَعْلُهُ مُعْجِزَةً بِأَنَّهُ يُطْلَقُ بَعْدَهُ عَلَى الْحَرِيرِ فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: سَقَطَ مِنْهُ فَاعِلُ يَرُوحُ فَالْتَبَسَ الْمَعْنَى، فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ مَا الْتَبَسَ مِنْهُ، بَلْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَلَكِنَّ الْحُمَيْدِيَّ، وَالْخَطَّابِيَّ، وَصَاحِبَ جَامِعِ الْأُصُولِ ذَكَرُوا (تَرُوحُ عَلَيْهُمْ سَارِحَةٌ) بِالتَّاءِ الْمُقَيَّدَةِ بِنُقْطَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، وَيَرْفَعُ " سَارِحَةٌ " عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، عَلَى أَنَّ الْبَاءَ تُزَادُ فِي الْفَاعِلِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا هَلْ أَتَاهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بِأَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ نَمْلِكَ بَيْقَرَا
قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي وُقُوعِ الِالْتِبَاسِ عَلَى تِلْكَ النُّسْخَةِ، وَزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الْفَاعِلِ مِنْ مُخْتَصَّاتِ كَفَى، وَالْبَيْتُ لَيْسَ نَصًّا فِي الْمَعْنَى، بَلِ الْأَظْهَرُ فِيهِ حَذْفُ الْفَاعِلِ عَلَى مَا جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ: وَأَمَّا نِسْبَتُهُ إِلَى مُسْلِمٍ وَأَنَّهُ رَوَاهُ فِي كِتَابِهِ كَذَا، فَهُوَ سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنِّي مَا وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فَحَسْبُ، وَصَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ رَوَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ؟ قُلْتُ: مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَالشَّيْخُ ثِقَةٌ مُحَقِّقٌ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي صَدَدِ الِاحْتِجَاجِ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ رَابِعًا: وَقَدْ سَقَطَ مِنْهُ كَلِمَةُ (عَلَيْهِمْ) ، فَإِنِّي مَا وَجَدْتُ فِي الْأُصُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ثَابِتَةً، قُلْتُ: فَثَبَتَ الْمُدَّعَى بِالْأَقْوَى، مَعَ أَنَّهُ أَثْبَتَ وُجُودَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى مُسْلِمٍ وَإِسْنَادُهُ مُسَلَّمٌ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ نُزُولُ بَعْضِهِمْ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ وَرَوَاحُ سَارِحَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعُهُمْ ذَا الْحَاجَةِ بِالْمَطْلِ وَالتَّسْوِيفِ، سَبَبًا لِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالنَّكَالِ الْهَائِلِ الْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي الشُّحِّ وَالْمَنْعِ، بُولِغَ فِي الْعَذَابِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي إِيثَارِ ذِكْرِ الْعَلَمِ عَلَى الْجَبَلِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَكَانَ مُخْصِبٌ مُمْرِعٌ، وَمَقْصَدٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونُوا ذَوِي ثَرْوَةٍ، وَمَوْئِلًا لِلْمَلْهُوفِينَ، فَلَمَّا دَلَّ خُصُوصِيَّةُ الْمَكَانِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، دَلَّ خُصُوصِيَّةُ الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: تَرُوحُ عَلَيْهُمْ سَارِحَتَهُمْ، وَتَعْدِيَتُهُ (بِعَلَى) الْمُنَبِّهَةِ لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى أَنَّ ثَرْوَتَهُمْ حِينَئِذٍ أَوْفَرُ وَأَظْهَرُ، وَأَنَّ احْتِيَاجَ الْوَارِدِينَ إِلَيْهِمْ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ ; لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ حِينَئِذٍ، وَفِي قَوْلِهِمْ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، إِدْمَاجٌ لِمَعْنَى الْكَذِبِ وَخَلْفِ الْمَوْعِدِ، وَاسْتِهْزَاءٌ بِالطَّالِبِ، فَإِذَا يَسْتَأْهِلُونَ، قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ لَمْ يُفِدِ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ الْمَسْخِ الْمُقَرَّرِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَالصَّوَابُ مَا قَرَّرْنَا، وَفِيمَا سَبَقَ قَدَّرْنَاهُ وَحَرَّرْنَاهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّ الْعَلَمَ يَدُلُّ عَلَى الشُّهْرَةِ وَالْمَقْصِدِ لِقَوْلِ الْخَنْسَاءِ فِي مَدْحِ أَخِيهَا:
كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ
نَبَّهَتْ بِهِ عَلَى أَنَّ أَخَاهَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَمَلْجَأٌ لِلْمَلْهُوفِينَ، وَمَأْمَنٌ لِلْمُضْطَرِّينَ، فَإِنَّ رَوَاحَ السَّارِحَةِ دَلَّ عَلَى وُفُورِ الثَّرْوَةِ وَظُهُورِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: ٦] ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْإِرَاحَةُ عَلَى التَّسْرِيحِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْجَمَالَ فِي الْإِرَاحَةِ أَظْهَرُ إِذَا أَقْبَلَتْ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ أَدْبَرَتْ إِلَى الْحَظَائِرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمَسْخَ قَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْخَسْفُ، كَمَا كَانَا فِي سَائِرِ الْأُمَمِ، خِلَافَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، إِنَّمَا مَسْخُهَا بِقُلُوبِهَا، أَقُولُ: فَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ نَفْيِهَا، فَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ زَمَانِ الْأُمَّةِ فَهُوَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ آخِرُ الزَّمَانِ كَذَا الْحَدِيثُ، وَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى مَسْخِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَخَسْفِهِمْ، وَالْمُثْبَتُ مِنْهَا مَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute