وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَأَمْثَالِهَا (كُلَّهُ) أَيْ: جَمِيعَهُ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ وَأَصْنَافِهِ (مَعَهُ) أَيْ: فِي زَمَنِهِ (بَرَدَ) أَيْ: ثَبَتَ وَدَامَ (لَنَا؟) فَفِي النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ، أَيْ: لَا تَعَبَ فِيهِ وَلَا مَشَقَّةَ، وَكُلُّ مَحْبُوبٍ عِنْدَهُمْ بَارِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَنِيمَةُ الثَّابِتَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَدَ لَنَا عَلَى فُلَانٍ حَقٌّ، أَيْ: ثَبَتَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خَبَرُ قَوْلِهِ: أَنَّ إِسْلَامَنَا، وَالْجُمْلَةُ فَاعِلُ هَلْ يَسُرُّكَ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ) : عَطْفٌ عَلَى (أَنَّ إِسْلَامَنَا) ، (عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نَجَوْنَا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ (كَفَافًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيْ: سَوَاءً (رَأْسًا بِرَأْسٍ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ نَجَوْنَا، أَيْ: مُتَسَاوِينَ لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا عَلَيْنَا، بِأَنْ لَا يُوجِبَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: كَفَافًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، أَيْ: نَجَوْنَا مِنْهُ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ لَا يَفْضُلُ عَلَيْنَا شَيْءٌ مِنْهُ، أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ: مَكْفُوفًا عَنَّا شَرُّهُ. (فَقَالَ أَبُوكَ لِأَبِي! لَا وَاللَّهِ) أَيْ: لَا يَسُرُّنَا، وَبَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: (قَدْ جَاهَدْنَا) أَيِ: الْكُفَّارَ (بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّيْنَا) أَيْ: صَلَوَاتٍ (وَصُمْنَا) أَيْ: سَنَوَاتٍ (وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا) أَيْ: مِنَ الصَّدَقَاتِ وَنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ (وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا) أَيْ: بِسَبَبِنَا (بَشَرٌ كَثِيرٌ) أَيْ: مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ (وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَاكَ) وَفِي نُسْخَةٍ ذَلِكَ، أَيْ: ثَوَابَ مَا ذُكِرَ زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ لَنَا مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ.
(قَالَ أَبِي) : يَعْنِي عُمَرَ (وَلَكِنِّي أَنَا) : زِيدَ لِلتَّأْكِيدِ (وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ) أَيْ: مَا سَبَقَ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (بَرَدَ لَنَا) أَيْ: تَمَّ وَلَمْ يَبْطُلْ وَلَمْ يَنْقَضِي بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ) بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ هُنَا (بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ مَمَاتِهِ وَفَقْدِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ بَرَكَاتِهِ (نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ) : وَذَلِكَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ التَّابِعَ أَسِيرُ الْمَتْبُوعِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، اعْتِقَادًا وَإِخْلَاصًا وَعِلْمًا وَعَمَلًا، أَمَا تَرَى صِحَّةَ بِنَاءِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ الْمُقْتَدَى، وَكَذَا فَسَادُهَا، وَلَا شَكَّ فِي وُصُولِ الْكَمَالِ وَحُصُولِ صِحَّةِ الْأَعْمَالِ، فَيُحَالُ مُلَازَمَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا بَعْدَهُ فَمَا وَقَعَ مِنَ الطَّاعَاتِ لَا يَخْلُو مِنْ تَغْيِيرِ النِّيَّاتِ، وَفَسَادِ الْحَالَاتِ، وَمُرَاعَاةِ الْمُرَايَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ الْوَفَاةِ بِقَوْلِهِ: فَمَا نَقَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْكَرَ قُلُوبَنَا، يَعْنِي بِالْمُظْلِمَةِ النَّاشِئَةَ عَنْ غَيْبَةِ نُورِ شَمْسِ وُجُودِهِ، وَقَمَرِ جُودِهِ، فَالْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ أَنْ يَكُونَ فِي مَرْتَبَةِ السَّرِيَّاتِ بَيْنَ الطَّاعَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَعُظَمَاءِ الْخِلَافَةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَطَاعَاتُهُمُ الْمَشْحُونَةُ بِالْغُرُورِ، وَالْعَجَبِ، وَالرِّيَاءِ أَسْبَابٌ لِلْمَعَاصِي، وَوَسَائِلُ لِعُقُوبَاتِ الْعَاصِي غَالِبًا، إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَعَيْنِ عِنَايَتِهِ بِأَنْ يُلْحِقَ الْمُسِيئِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْصِيَةٌ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَاسْتِصْغَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عُجْبًا وَاسْتِكْبَارًا.
(فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ) أَيْ: عُمَرَ (وَاللَّهِ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِي) أَيْ: أَبِي مُوسَى فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهَذَا كَذَلِكَ ; لِأَنَّ كَلَامَ السَّادَاتِ سَادَاتُ الْكَلَامِ، وَكَيْفَ وَهُوَ النَّاطِقُ الصَّوَابَ، وَالْفَارُوقُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، وَالْمُوَافِقُ رَأْيُهُ نُزُولَ الْكِتَابِ، وَقَدْ طَابَقَ قَوْلُهُ حَدِيثَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: لَوَدِدْتُ خَبَرُ لَكِنِّي مَعَ اللَّامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَوَدِدْتُ جَوَابَ الْقِسْمِ، وَالْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ خَبَرُ لَكِنِّي عَلَى التَّأْوِيلِ، قُلْتُ: بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْكُوفِيِّينَ، فَفِي الْمَعْنَى: وَلَا يَدْخُلُ اللَّامُ فِي خَبَرِ لَكِنَّ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ:
وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهَا لَعَمِيدُ
وَخُرِّجَ عَلَى زِيَادَةِ اللَّامِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ: لَكِنَّ أَنَّنِي، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا وَنُونُ لَكِنْ لِلسَّاكِنَيْنِ، قُلْتُ هَذِهِ كُلُّهَا تَكَلُّفَاتٌ بَعِيدَةٌ، وَتَعَسُّفَاتٌ مَزِيدَةٌ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، فَالصَّوَابُ أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا جُوِّزَ فِي بَعْضِ أَخَوَاتِ لَكِنَّ عَلَى الْقِيَاسِ السَّدِيدِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الْأَوْحَدِيِّ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ بِإِسْنَادٍ هُوَ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، ثُمَّ مِنْ أَعْجَبِ الْغَرَائِبِ وَأَغْرَبِ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ لَوْ حُكِيَ مِنْ طَرِيقِ الْأَصْمَعِيِّ وَنَحْوِهُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِمَّنْ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ تَكَلَّمَ بِمِثْلِهِ نَثْرًا أَوْ نَظْمًا، أَخَذَ النُّحَاةُ بِهِ، وَجَعَلُوهُ أَصْلًا مُمَهِّدًا وَأَسَاسًا مُؤَيِّدًا، فَصَدَقَ مَنْ قَالَ: أَنَّ أَدِلَّةَ الصَّرْفِيِّينَ وَالنَّحْوِيِّينَ كَنَارَاتِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَتَارَةً تَطَّرِدُ وَتَارَةً تَفُوتُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute