للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[٨] بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٥٣٧١ - عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقَتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلَتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: رَبِّ! إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا أَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

[٨] بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ

كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوِ الْبَاءُ سَاكِنٌ عَلَى الْوَقْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بَابٌ فِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، أَيْ: التَّخْوِيفُ وَالتَّذْكِيرُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٥٣٧١ - (عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ تَمِيمِيٌّ يُعَدُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ) أَيِ: الْمَعْرُوفَةُ أَوْ فِي مَوْعِظَتِهِ (" أَلَا ") بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيَانِ " مَا " أَوْ تَبْعِيضِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ خَبَرٌ لِمَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَّمَنِي (" يَوْمِي هَذَا ") أَيْ: بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِخُصُوصِهِ (كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ) أَيْ: أَعْطَيْتُهُ (عَبْدًا) أَيْ: مِنْ عِبَادِي وَمَلَّكْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَامُ (حَلَالٌ) أَيْ: فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحَرِّمَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَهَذَا مِنْ مَقُولِ اللَّهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ) أَيْ: مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَمَائِلِينَ إِلَيْهِ عَنِ الْبَاطِلِ (كُلَّهُمْ) أَيْ: جَمِيعُهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَهِيَ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَمَا بِهِ يَتَعَلَّقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠] أَيْ: لَا تُبَدِّلُوا مَخْلُوقَاتِهِ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِهَا: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: ٣٦] أَيِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا تَعْدِلُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الطَّرِيقِ الزَّائِغَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: ١٥٣] أَيْ: عَنْ طَرِيقِهِ الْحَقِيقِيِّ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ، الْمَقْبُولِ لَدَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: ٩] ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ضَلَالَةِ الْخَلَقِ وَغَوَايَتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّهُمْ) أَيْ: عِبَادِي الْحُنَفَاءُ (أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ) ، أَيْ جَاءُوهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ (فَاجْتَالَتْهُمْ) أَيْ: صَرَفَتْهُمْ وَسَاقَتْهُمْ مَائِلِينَ (عَنْ دِينِهِمْ) مِنِ اجْتَالَهُ أَيْ سَاقَهُ وَذَهَبَ بِهِ، وَقِيلَ: الِافْتِعَالُ بِهَا لِلْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ، كَاخْتَطَبَ زَيْدٌ عُمَرَ أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْخُطْبَةِ، فَالْمَعْنَى: حَمَلَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَلَى جَوَلَانِهِمْ وَمَيَلَانِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ (وَحَرَّمَتْ) أَيْ: الشَّيَاطِينُ (عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ) أَيْ: مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَوْضِيحُهُ مَا حَقَّقَهُ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ حِكَايَةُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِ هَذَا، وَالْمَعْنَى: مَا أَعْطَيْتُ عَبْدًا مِنْ مَالٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْحَرَامُ رِزْقًا، لِأَنَّ كُلَّ رِزْقٍ سَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عَبْدِهِ نَحَلَهُ وَأَعْطَاهُ، وَكُلُّ مَا نَحَلَهُ وَأَعْطَاهُ فَهُوَ حَلَالٌ، فَيَكُونُ كُلُّ رِزْقٍ رَزَقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ هُوَ حَلَالٌ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِحَلَالٍ لَيْسَ بِرِزْقٍ ; لِأَنَّا نَقُولُ: الرِّزْقُ أَعَمُّ مِنَ الْإِعْطَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ، وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَلْفًا بَانَتْ وَدَخَلَ الْأَلْفُ فِي مِلْكِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الرِّزْقُ، (وَأَمَرَتْهُمْ) أَيِ: الشَّيَاطِينُ لَهُمْ (أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا) أَيْ: إِشْرَاكًا أَوْ شَيْئًا (لَمْ أُنْزِلْ بِهِ) أَيْ: بِوُجُودِهِ (سُلْطَانًا) أَيْ: حُجَّةً وَبُرْهَانًا سُمِّيَتْ بِهِ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ هُجُومِ الْخَوَاطِرِ عَلَيْهَا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا لَيْسَ عَلَى إِشْرَاكِهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا نَقْلِيٌّ ; إِذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَبَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،

<<  <  ج: ص:  >  >>