بَلِ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٣] وَالْقُرْآنُ مَشْحُونٌ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَفْعُولُ يُشْرِكُوا يُرِيدُ بِهِ الْأَصْنَامَ، وَسَائِرَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: أَمَرَتْهُمْ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بِعِبَادَةِ مَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِعِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَنْصَبْ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا أَيْ: لَا إِنْزَالَ سُلْطَانٍ وَلَا شَرِيكَ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ:
عَلَى لَا حُبَّ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ
أَيْ: لَا مَنَارَ وَلَا اهْتِدَاءَ بِهِ، وَقَوْلِهِ:
وَلَا يَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
أَيْ: لَا ضَبَّ وَلَا انْحِجَارَ، نَفْيًا لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيِ: الْقَيْدُ وَالْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ: هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ بُرْهَانًا أَنْ يُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، (" وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ") أَيْ: رَآهُمْ وَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الشِّرْكِ مُنْهَمِكِينَ فِي الضَّلَالَةِ (" فَمَقَتَهُمْ ") أَيْ: أَبْغَضَهُمْ (" عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ") : بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ غَيْرُ الْعَرَبِ، وَالْمَعْنَى أَبْغَضُهُمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ وَخُبْثِ عَقِيدَتِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الشِّرْكِ، وَانْغِمَاسِهِمْ فِي الْكُفْرِ، قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَعَبَدُوا عُزَيْرًا، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْمُ عِيسَى ذَهَبُوا إِلَى التَّثْلِيثِ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، (" إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ") أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَبَرَّأُوا عَنِ الشِّرْكِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِ عِيسَى بَقُوا مُتَابَعَتَهُ إِلَى أَنْ آمَنُوا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (" وَقَالَ ") أَيِ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ) أَيْ: أَرْسَلْتُكَ يَا مُحَمَّدُ (لِأَبْتَلِيَكَ) أَيْ: لِأَمْتَحِنَكَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِكَ إِيَّاكَ (وَأَبْتَلِيَ بِكَ) أَيْ: قَوْمُكَ هَلْ يُؤْمِنُونَ بِكَ أَمْ يَكْفُرُونَ (وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا) أَيْ: عَظِيمًا، وَهُوَ الْقُرْآنُ (لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ) ، أَيْ: لَمْ نَكْتَفِ بِإِيدَاعِهِ الْكُتُبَ فَيَغْسِلُهُ الْمَاءُ، بَلْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا مَحْفُوظًا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: ٤٩] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] أَوِ الْمُرَادُ بِالْغَسْلِ النَّسَخُ، وَالْمَاءُ مَثَلٌ، أَيْ: لَا يَنْزِلُ بَعْدَهُ كِتَابٌ يَنْسَخُهُ، وَلَا نَزَلَ قَبْلَهُ كِتَابٌ يُبْطِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: ٤٢] .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ: كِتَابًا مَحْفُوظًا فِي الْقُلُوبِ لَا يَضْمَحِلُّ بِغَسْلِ الْقَرَاطِيسِ، أَوْ كِتَابًا مُسْتَمِرًّا مُتَدَاوَلًا بَيْنَ النَّاسِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْ إِبْطَالِ حُكْمِهِ، وَتَرْكِ قِرَاءَتِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ بِغَسْلِ أَوْرَاقِهِ بِالْمَاءِ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوْ كِتَابًا وَاضِحًا آيَاتُهُ، بَيِّنًا مُعْجِزَاتُهُ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا يَدْحَضُهُ شُبْهَةُ مُنَاظِرٍ، فَمِثْلُ الْإِبْطَالِ مَعْنَى بِالْإِبْطَالِ صُورَةً، وَقِيلَ: كُنِيَ بِهِ عَنْ غَزَارَةِ مَعْنَاهِ وَكَثْرَةِ جَدْوَاهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَالُ فُلَانٍ لَا يُفْنِيهِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ، وَقَوْلُهُ: (" تَقْرَؤُهُ ") أَيْ: أَنْتَ (نَائِمًا وَيَقْظَانَ) بِسُكُونِ الْقَافِ، وَالْمَعْنَى: يَصِيرُ لَكَ مِلْكَةً بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي ذِهْنِكَ وَتَلْتَفِتُ إِلَيْهِ نَفْسُكَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَادِرِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَاهِرِ بِهِ هُوَ يَفْعَلُهُ بِالْمَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ فِي قَلْبِكَ وَأَنْتَ نَائِمٌ، وَأَقُولُ: لَا احْتِيَاجَ إِلَى التَّأْوِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَلْبِهِ الْجَلِيلِ، لِأَنَّهُ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَدْ شُوهِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ وَهُمْ نَائِمُونَ.
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا حَكَى بَعْضُ الْمُرِيدِينَ أَنَّهُ وَشَيْخَهُ كَانَا يَتَدَارَسَانِ وَقْتَ السَّحَرِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عُشْرًا عُشْرًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَتَاهُ الْمُرِيدُ وَقْتَ السَّحَرِ عَلَى عَادَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ وِرْدَهُ، فَلَمَّا تَمَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute