أَيْ: يُعَادُ وَيُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: غُفْرًا غُفْرًا أَيْ: نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ بِهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى، كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَطِّيَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَلَى هَذَا تَتَوَجَّهُ رِوَايَةُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ، فَشُبِّهَ عَرْضُ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، يُقَالُ: أُشْرِبَ فِي قَلْبِهِ حُبَّهُ أَيْ: خَالَطَهُ، فَالْمَعْنَى: خَالَطَ الْفِتَنَ وَاخْتَلَطَ بِهَا، وَدَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا، وَلَزِمَهَا لُزُومًا كَامِلًا، وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ فِي نُفُوذِ الْمَسَامِّ وَتَنْفِيذِ الْمَرَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: ٩٣] أَيْ: حُبُّ الْعِجْلِ، وَالْإِشْرَابُ: خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ شَرِبَ الْآخَرَ، وَكُسِيَ لَوْنًا آخَرَ، فَالْمَعْنَى: جُعِلَ مُتَأَثِّرًا بِالْفِتَنِ بِحَيْثُ يَتَدَاخَلُ فِيهِ حُبُّهَا كَمَا يَتَدَاخَلُ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، (" نُكِتَتْ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُقِطَتْ وَأَثَّرَتْ، (" فِيهِ ") أَيْ: فِي قَلْبِهِ (" نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ") ، وَأَصْلُ النَّكْتِ ضَرْبُ الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ فَيُؤَثِّرُ فِيهَا، (" وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا ") أَيْ: رَدَّ الْفِتَنَ وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا (" نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ") أَيْ: إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ ابْتِدَاءً وَإِلَّا فَمَعْنَى نُكِتَتْ أُثْبِتَتْ فِيهِ وَدَامَتْ وَاسْتَمَرَّتْ (" حَتَّى ") : غَايَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ (" تَصِيرَ ") بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ: تَصِيرُ قُلُوبُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَوْ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ قَلْبِهِ أَوْ يَصِيرُ قَلْبُهُ (" عَلَى قَلْبَيْنِ ") أَيْ: نَوْعَيْنِ أَوْ صِنْفَيْنِ (" أَبْيَضُ ") بِالرَّفْعِ، أَيْ: أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ (" مِثْلُ الصَّفَا ") بِالْقَصْرِ أَيْ: مِثْلُ الْحَجَرِ الْمَرْمَرِ الْأَمْلَسِ مِنْ غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالصَّفَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنْ قَلْبَيْنِ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِ مِنْهُ، أَيْ: مُمَاثِلًا وَمُشَابِهًا لِلصَّفَا فِي النُّورِ وَالْبَهَاءِ، (" فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ") وَظُلْمَةٌ وَبَلِيَّةٌ (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ; لِأَنَّهَا قُلُوبٌ صَافِيَةٌ قَدْ أَنْكَرَتْ تِلْكَ الْفِتَنَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، فَحَفِظَهَا عَنْهَا بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، (وَالْآخَرُ) بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" أَسْوَدَ مِرْبَادًّا ") بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ: مِنِ ارْبَادَّ كَاحْمَارَّ، أَيْ صَارَ كَلَوْنِ الرَّ مَادِ، مِنَ الرُّبْدَةِ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، وَهُوَ حَالٌ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، (كَالْكُوزِ) ، أَيْ: يُشْبِهُ الْآخَرُ الْكُوزَ حَالَ كُوخٍ (" مُجْخِيًّا ") بِضَمِّ مِيمٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ مُشَدَّدَةٍ وَقَدْ تُخَفَّفُ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَرُوِيَ بِتَقْدِيمِ الْخَاءِ عَلَى الْجِيمِ أَيْ مَائِلًا مَنْكُوسًا، مُشَبِّهًا مَنْ هُوَ خَالٍ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بِكُوزٍ مَائِلٍ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَسْتَقِرُّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" لَا يَعْرِفُ ") أَيْ: هَذَا الْقَلْبُ (" مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا) ، وَالْمَعْنَى: لَا يَبْقَى فِيهِ عِرْفَانُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَا إِنْكَارُ مَا هُوَ مُنْكَرٌ (" إِلَّا مَا أُشْرِبَ ") أَيِ: الْقَلْبُ (" مِنْ هَوَاهِ ") ، أَيْ: فَيَتْبَعُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا شَرْعًا. هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ، وَتَفْصِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْكَنْزِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ حَتَّى يَصِيرَ جِنْسُ الْإِنْسِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ ذُو قَلْبٍ أَبِيٍّ كَالصَّفَا، وَذُو قَلْبٍ أَسْوَدَ مُرْبَدًّا. قَالَ الْمُظْهِرُ: الضَّمِيرُ فِي يَصِيرُ لِلْقُلُوبِ أَيْ: تَصِيرُ الْقُلُوبُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَبْيَضُ، وَثَانِيهُمَا: أَسْوَدُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّفَا: الْحِجَارَةُ الصَّافِيَةُ الْمَلْسَاءُ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا النَّوْعُ الَّذِي صَفَا بَيَاضُهُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ لِقَوْلِهِ أَبْيَضُ، وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الْأَحْجَارَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْدِنِيَّةً لَمْ تَتَغَيَّرْ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَوْنٌ آخَرُ، لَا سِيَّمَا النَّوْعَ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فَإِنَّهُ أَبَدًا عَلَى الْبَيَاضِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الْقَلْبَ بِالرُّبْدَةِ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا يُوجَدُ مِنَ السَّوَادِ، بِخِلَافِ مَا يَشُوبُهُ صَفَاءٌ وَتَعْلُوهُ طَرَاوَةٌ مِنَ النَّوْعِ الْخَالِصِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ، لَكِنَّهُ صِفَةٌ أُخْرَى ; لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ، وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْتَصِقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا، وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يُعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا، وَأُصُولِ بِلَادِنَا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ ; فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى (مِرْبَئِدٍّ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ، وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ، وَيَكُونُ مُرْبَدًّا مِثْلَ مُسْوَدًّا وَمُحْمَرًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَرْبَدَ، إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَيُقَالُ: ارْبَأَدَّ فَهُوَ مُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَا أُشْرِبَ يَعْنِي: لَا يَعْرِفُ الْقَلْبُ إِلَّا مَا قِيلَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الذَّمِّ بِمَا يُشْبِهُ الْمَدْحَ، أَيْ: لَيْسَ فِي خَيْرٍ الْبَتَّةِ إِلَّا هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِخَبَرٍ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خَيْرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute