للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

٥٣٨١ - وَعَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا: " «إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» ". وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: " «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ; فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلُ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ ; فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدُهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

٥٣٨١ - (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ) ، أَيْ: فِي أَمْرِ الْأَمَانَةِ الْحَادِثَةِ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ ; وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهَا فِي الْبَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَوَّلُ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ، إِلَى آخِرِهِ، وَالثَّانِي: حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا (رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا) : وَهُوَ نُزُولُ الْأَمَانَةِ (وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ) : وَهُوَ رَفْعُ الْأَمَانَةِ (حَدَّثَنَا) : وَهُوَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ (" إِنَّ الْأَمَانَةَ ") : وَهِيَ الْإِيمَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: ٧٢] وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَا لِأَنَّهَا مَدَارُ أَمْرِ الدِّيَانَةِ (" نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: أَصْلِ قُلُوبِهِمْ، قَالَ شَارِحٌ: جَذْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ، أَيْ: إِنَّ الْأَمَانَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ فِي قُلُوبِ رِجَالِ اللَّهِ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: (" ثُمَّ عَلِمُوا ") أَيْ: بِنُورِ الْإِيمَانِ (" مِنَ الْقُرْآنِ ") أَيْ: مِمَّا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، حَرَامًا أَوْ مُبَاحًا، مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: (" ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ ") ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْخِيرِ رُتْبَةِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَصِّ كَلَامِ الْقَدِيمِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمَانَةِ التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيرِ: الْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: ٧٢] وَهِيَ عَيْنُ الْإِيمَانِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ: الْعَهْدُ الْمِيثَاقِيُّ، هُوَ الْإِيمَانُ الْفِطْرِيُّ، فَذَكَرَ قَوْلَ صَاحِبِ التَّقْرِيرِ لِبَيَانِ مَزِيدِ تَحْرِيرِ التَّقْرِيرِ، لَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِصَدْرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَكَذَا مَا يَأْتِيهِ مِنْ خَتْمِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ اللَّاحِقِ، حَيْثُ قَالَ: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَنْعُ الْأَمَانَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» " فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

(وَحَدَّثَنَا) : وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي (عَنْ رَفْعِهَا) أَيِ: ارْتِفَاعُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ وَانْتِقَاضُهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ عَصْرِهِ فِي عَصْرِ أَصَحَابِهِ (قَالَ: " يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ ") : وَهِيَ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهَا فَمَا بَعْدَهُ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ، وَأَمَّا النَّوْمَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَفْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِارْتِكَابِ السَّيِّئَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى نَقْصِ الْأَمَانَةِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ (" فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ ") أَيْ: بَعْضُهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى: يُقْبَضُ بَعْضُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ (مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ) بِفَتَحَاتٍ فَتَشْدِيدُ لَامٍ، أَيْ: فَيَصِيرُ (" أَثَرُهَا ") أَيْ: أَثَرُ الْأَمَانَةِ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ (" مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ") بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَبِالْفَوْقِيَّةِ: وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ كَالنُّقْطَةِ فِي الشَّيْءِ (" ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ ") أَيِ: الْأُخْرَى (" فَتُقْبَضُ ") أَيِ: الْأَمَانَةُ أَيْ بَعْضُ مَا بَقِيَ مِنْهَا (" فَيَبْقَى ") : مَعْرُوفًا، وَقِيلَ مَجْهُولًا (" أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ ") بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ، وَهُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْيَدِ (كَجَمْرٍ) أَيْ: تَأْثِيرًا كَتَأْثِيرِ جَمْرٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: أُبْدِلَ مِنْ مِثْلِ أَثَرِ الْمَجْلِ، أَيْ: يَكُونُ أَثَرُهَا فِي الْقَلْبِ كَأَثَرِ جَمْرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ يَعْنِي أَثَرَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ (" دَحْرَجْتَهُ ") أَيْ: قَلَّبْتَهُ وَدَوَّرْتَهُ (" عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ") بِكَسْرِ الْفَاءِ، ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا ") بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مُنْتَفِخًا، مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَوْضِعِ الْمُدَحْرَجِ عَلَيْهِ الْجَمْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالتَّخَلُّلَ بِالْقَصَبِ، فَإِنَّهُ الْفَمُ يَنْتَبِرُ مِنْهُ، أَيْ: يَرِمُ وَيَنْتَفِطُ، قِيلَ: الْمَعْنَى: يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّ الرَّجُلَ ذُو أَمَانَةٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَثَابَةِ نُقْطَةٍ تَرَاهَا مُنْتَفِطَةً مُرْتَفِعَةً كَبِيرَةً لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَفِي الْفَائِقِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكْتِ وَالْمَجْلِ: أَنَّ الْوَكْتَ النُّقْطَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ، وَالْمَجْلَ غِلَظُ الْجِلْدِ مِنَ الْعَمَلِ لَا غَيْرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا (" وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ") أَيْ: صَالِحٌ، بَلْ مَاءٌ فَاسِدٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>