وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَزُولُ عَنِ الْقُلُوبِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا زَالَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهَا زَالَ نُورُهَا وَخَلِفَتْهُ ظُلْمَةٌ كَالْوَكْتِ، وَهُوَ اعْتِرَاضُ لَوْنٍ مُخَالِفٍ لِلَوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ آخَرُ صَارَ كَالْمَجْلِ، وَهُوَ أَثَرٌ مُحْكَمٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذِهِ الثُّلْمَةُ فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ زَوَالَ ذَلِكَ النُّورِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ وَخُرُوجِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، وَاعْتِقَابِ الظُّلْمَةِ إِيَّاهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجُهُ عَلَى رِجْلِهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا، ثُمَّ يَزُولُ الْجَمْرُ وَيَبْقَى النَّفْطُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ نَفَطَ وَلَمْ يَقُلْ نَفَطَتِ اعْتِبَارًا بِالْعُضْوِ، انْتَهَى.
وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ أَنَّ الْأَمَانَةَ تُرْفَعُ عَنِ الْقُلُوبِ ; عُقُوبَةً لِأَصْحَابِهَا عَلَى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ الذُّنُوبِ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ مَنَامِهِمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى فِيهِ أَثَرٌ، تَارَةً مِثْلَ الْوَكْتِ وَتَارَةً مِثْلَ الْمَجْلِ، وَهُوَ انْتِفَاطُ الْيَدِ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْمَجْلُ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا نَفْسُ النَّفَطَةِ، وَهَذَا أَقَلُّ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْمُجَوَّفِ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى، أَرَادَ بِهِ خُلُوَّ الْقَلْبِ عَنِ الْأَمَانَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهَا مِنْ طَرِيقِ الْحِسَابِ.
(" وَيُصْبِحُ النَّاسُ ") أَيْ: يَدْخُلُونَ فِي الصَّبَاحِ أَوْ يَصِيرُونَ (" يَتَبَايَعُونَ ") أَيْ: يَجْرِي بَيْنَهُمُ التَّبَايُعُ، وَيَقَعُ عِنْدَهُمُ التَّعَاهُدُ (" وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ") ، بَلْ يَظْهَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْخِيَانَةُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُوَاعَدَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِفْظَ الْأَمَانَةِ أَثَرُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا نَقَصَ الْأَمَانَةُ نَقَصَ الْإِيمَانُ وَبَطَلَ الْإِيقَانُ، وَزَالَ الْإِحْسَانُ، (" فَيُقَالُ ") أَيْ: مِنْ غَايَةِ قِلَّةِ الْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ (" إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ") أَيْ: كَامِلُ الْإِيمَانِ وَكَامِلُ الْأَمَانَةِ (وَيُقَالُ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (" لِلرَّجُلِ ") أَيْ: مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَطُبِعَ فِي الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ، وَفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ، وَصَبَاحَةٍ وَقُوَّةٍ بَدَنِيَّةٍ، وَشَجَاعَةٍ وَشَوْكَةٍ، (مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ ") ; تَعَجُّبًا مِنْ كَمَالِهِ، وَاسْتِغْرَابًا مِنْ مَقَالِهِ، وَاسْتِبْعَادًا مِنْ جَمَالِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَمْدَحُونَهُ بِكَثْرَةِ الْعَقْلِ وَالظَّرَافَةِ وَالْجَلَادَةِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَلَا يَمْدَحُونَ أَحَدًا بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
(" وَمَا فِي قَلْبِهِ ") : حَالٌ مِنَ الرَّجُلِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) أَيْ: مِقْدَارُ شَيْءٍ قَلِيلٍ (" مِنْ خَرْدَلٍ ") : مِنْ بَيَانِيَّةٌ لِحَبَّةٍ، أَيْ: هِيَ خَرْدَلٌ (" مِنْ إِيمَانٍ ") أَيْ: كَائِنًا مِنْهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلَى حَمْلِهِمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ بِالْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ آخِرًا: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ، فَهَلَّا حَمَلُوهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِقَوْلِهِ: وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيَكُونُ وَضْعُ الْإِيمَانِ آخِرًا مَوْضُوعَهَا ; تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» "، قُلْتُ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ آخِرًا وَمَا صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَعْلَمُونَ إِيقَانَهُ وَإِيقَانَهُمْ بِتَتَبُّعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ مِنْ كُلِّيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute