وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] قَالَ الْمُظْهِرُ: يَحْتَمِلُ هَذَا احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَهْلَ تِلْكَ الْحَرْبِ بِسُوءٍ يَكُونُ كَمَنْ حَارَبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَغَيْبَةُ الْمُسْلِمِينَ إِثْمٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ وَرَدَ: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ، وَلَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ ; وَلِذَا اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْحَرْبُ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنْ هَذَيْنِ الصَّدْرَيْنِ وَأَصْحَابِهِمَا يَكُونُ مُبْتَدِعًا ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» " أَيْ: عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، فَإِنَّ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ تَعَلَّقَ بِهِمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُمْ إِلَى التَّقْوَى وَرِضَا الْمَوْلَى وَجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَأَيْضًا لَهُمْ حُقُوقٌ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّةِ الْأُمَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوهُمْ إِلَّا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالدُّعَاءِ الْجَزِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَافِي أَنْ يُذَكَرَ أَحَدٌ مُجْمَلًا أَوْ مُعَيَّنًا بِأَنَّ الْمُحَارِبِينَ مَعَ عَلِيٍّ مَا كَانُوا مِنَ الْمُخَالِفِينَ، أَوْ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ كَانُوا بَاغِينَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارٍ: " «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» " ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ الْحُكْمِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَاصِلِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُصِيبِ، وَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ، مَعَ تَوْقِيرِ الصَّحَابَةِ وَتَعْظِيمِهِمْ جَمِيعًا فِي الْقَلْبِ لِرِضَا الرَّبِّ ; وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَفْضَلُ أَمْ مُعَاوِيَةُ؟ قَالَ: لَغُبَارُ أَنْفِ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَا فِي رِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَكَذَا مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. إِذْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَبْلَغَ الصَّحَابَةِ الْكُبَرَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: ١٠] ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: ١٠٠] ، وَقَوْلُهُ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: ١٠ - ١١] . قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ مَدَّ لِسَانَهُ فِيهِ بِشَتْمٍ أَوْ غِيبَةٍ يَقْصِدُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا يَفْعَلُونَ بِمَنْ حَارَبَهُمْ، اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الطَّعْنَ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَمَدْحَ الْأُخْرَى حِينَئِذٍ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، فَالْوَاجِبُ كَفُّ اللِّسَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، فَتَأَمَّلْ، لَكِنَّ الطِّيبِيَّ رَجَّحَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ ; حَيْثُ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ إِلَخْ. مَا رَوَيْنَا «عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ وَإِنَّمَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَقَالَ: يَا أَحْنَفُ! ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ، قَالَ: " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: مُجْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِهَةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلٍ حَارَةٍ وَحَارَةٍ، وَقَرْيَةٍ وَقَرْيَةٍ، وَطَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَاعِثٌ شَرْعِيٌّ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى إِطْلَاقِهِ الشَّامِلِ لِقَضِيَّةِ صِفِّينَ وَنَحْوِهَا ; لِئَلَّا يُنَافِيَ قَوْلَهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: ٩] ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ قَتْلَى طَائِفَةِ عَلِيٍّ لَيْسُوا فِي النَّارِ، فَكَلَامُ أَبِي بَكْرَةَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَإِمَّا فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ يُرِيدُ حِمَايَةَ الْعَصَبِيَّةِ لَا إِعْلَاءَ الْكَلِمَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقُلْ أُرِيدُ مُعَاوَنَةَ الْإِمَامِ الْحَقِّ وَالْخَلِيفَةِ الْمُطْلَقِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ عَلَى قَضِيَّةِ عَلِيٍّ لَا يَجُوزُ، وَيُؤَوَّلُ بِمَا قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَتْلَاهَا فِي النَّارِ لِلزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيطِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا كَفُّ الْأَلْسِنَةِ عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُصِيبًا، فَلَا يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِمَا، وَالْأَسْلَمُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَخُوضُوا فِي أَمْرِهِمَا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ أَيْدِينَا مِنْهَا فَلَا نُلَوِّثُ أَلْسِنَتَنَا بِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute