للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ بَعْضُهُمْ مُصِيبًا وَبَعْضُهُمْ مُخْطِئًا مَعْذُورًا فِي الْخَطَأِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِذَا أَخْطَأَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْمُحِقُّ الْمُصِيبُ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَانَتِ الْقَضَايَا مُشْتَبِهَةً، حَتَّى إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَحَيَّرُوا فِيهَا، فَاعْتَزَلُوا الطَّائِفَتَيْنِ وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَوْ تَيَقَّنُوا الصَّوَابَ لَمْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ مُسَاعَدَتِهِ.

قُلْتُ: وَسَبَبُ هَذَا التَّحَيُّرِ لَمْ يَكُنْ فِي أَنَّ عَلِيًّا أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ أَمْ مُعَاوِيَةَ؟ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وِلَايَةِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَعَلِيٍّ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ ; حَيْثُ تَعَلَّلَ مُعَاوِيَةُ بِأَنِّي لَمْ أُسَلِّمْ لَكَ الْأَمْرَ حَتَّى تَقْتُلَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَالشُّرُورِ مِمَّنْ حَاصَرَ الْخَلِيفَةَ وَأَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا ثَلْمَةٌ فِي الدِّينِ وَخَلَلٌ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَضَى رَأْيُ عَلِىٍّ، وَهُوَ الصَّوَابُ، أَنَّ قَتْلَ فِئَةِ الْفِتْنَةِ يَجُرُّ إِلَى إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ تَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأُولَى، مَعَ أَنَّ هُجُومَ الْعَوَامِّ وَعَدَمَ تَعْيِينِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمُبَاشَرَةِ قَتْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِإِمَامٍ آخَرَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ قَتْلًا عَامًا، وَلَا مَنْ يُتَّهَمُ بِقَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَدَخَلُوا فِي بَيْعَةِ الْخَلِيفَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ بَغْيِهِمْ، أَوْ شَرَدُوا عَنْ قِتَالِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ، هَذَا وَلَمَّا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْفِتَنَ وَحَذَّرَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَرَغَّبَ الْبُعْدَ عَنْهَا، وَرَهَّبَ عَنِ الْقُرْبِ إِلَيْهَا، وَأَطْلَقَهَا نَظَرًا إِلَى فَسَادِ غَالِبِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْفِتْنَةَ بِخُصُوصِهَا مُفَصَّلَةً وَإِنْ وَقَعَتْ مُجْمَلَةً تَحَيَّرَ فِيهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْأَسْلَمَ فِيهَا بِالْخُصُوصِ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا بِالْعُمُومِ، لَكِنْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ فِي الْآخِرِ حَقِّيَةُ عَلِىٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجَّهَهُ - وَخَطَأُ مُعَاوِيَةَ، نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْعُزْلَةِ، وَتَحَسَّرُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَثُوبَةِ الْجِلْوَةِ، وَلِلَّهِ حِكْمَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، فَلَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا كُلُّهُمْ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْأَصَحُّ وَقْفُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. أَقُولُ: لَكِنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَتْلَاهَا فِي النَّارِ " لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ رَأْيِ أَحَدٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>