للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قِبَلِ الْمَنْطُوقِ، لَكِنَّهُ يُشْعِرُ بِبَاطِلٍ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْعَرَبِ غَيْرُ مَبْعُوثٍ إِلَى الْعَجَمِ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ، وَهُوَ إِنْ قَصَدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَاذِبُ الَّذِي يَأْتِيهِ وَهُوَ شَيْطَانُهُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعُهُ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَوْ هَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ.

(ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) ؟ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرِّسَالَةَ النَّبَوِيَّةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ الْكَلَامِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّسَالَةَ اللُّغَوِيَّةَ ; فَإِنَّهُ أُرْسِلَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى لِلْفِتْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ، (فَرَصَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: ضَغَطَهُ حَتَّى ضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: ٤] ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا: فَرَفَضَهُ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمَعْنَى: تَرَكَهُ وَقَطَعَ سُؤَالَهُ وَجَوَابَهُ وَجِدَالَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ: فَرَضَّهُ أَيْ كَسَرَهُ، وَقِيلَ: صَوَابُهُ بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَصْرُ وَالتَّضْيِيقُ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ") .

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى فَرَصَّهُ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ عَلَى إِرْخَاءِ الْعِنَانِ أَيْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَتَفَكَّرْ هَلْ أَنْتَ مِنْهُمْ؟ انْتَهَى. وَفِيهِ إِيهَامُ تَجْوِيزِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ مِنَ الرُّسُلِ أَمْ لَا، وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فَعَلَهُ الدَّجَّالُ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي آمَنْتُ بِرُسُلِهِ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنْهُمْ، فَلَوْ كُنْتَ مِنْهُمْ لَآمَنْتُ بِكَ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِلَّا فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخَاتِمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَحَدٌ النُّبُوَّةَ فَطَلَبَ مِنْهُ شَخْصٌ الْمُعْجِزَةَ كَفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ ادَّعَى بِحَضْرَتِهِ النُّبُوَّةَ ; لِأَنَّهُ صَبِيٌّ، وَقَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ، أَوْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُسْتَمْسِكِينَ بِالذِّمَّةِ مُصَالِحِينَ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذِمَّةُ ابْنِ الصَّيَّادِ لِتُنْقَضَ بِقَوْلِهِ الَّذِي قَالَ، كَذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ الْوَالِدِ يُجْزِئُ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَرِيحًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَشْهَدُ اسْتِفْهَامٌ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي الرِّسَالَةِ.

(ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ: " مَاذَا تَرَى ") ؟ ذَا زَائِدَةٌ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: مَا تُبْصِرُ وَتُكَاشِفُ مِنَ الْأَمْرِ الْغَيْبِيِّ، (قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ) أَيْ: خَبَرٌ صَادِقٌ تَارَةً (وَكَاذِبٌ) أَيْ أُخْرَى، أَوْ مَلَكَ صَادِقٌ وَشَيْطَانٌ كَاذِبٌ، وَقِيلَ: حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيكَ مَا يَقُولُ لَكَ، وَمُجْمَلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يُحَدِّثُنِي بِشَيْءٍ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا، وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُلِّطَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ أَيْ شُبِّهَ (" عَلَيْكَ الْأَمْرُ ") أَيِ: الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ مَا يَأْتِيكَ بِهِ شَيْطَانُكَ مُخَلَّطٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ تَارَاتٌ يُصِيبُ فِي بَعْضِهَا وَيُخْطِئُ فِي بَعْضِهَا ; فَلِذَلِكَ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي خَبَّأْتُ ") أَيْ: أَضْمَرْتُ (" لَكَ ") أَيْ: فِي نَفْسِي (" خَبِيئًا ") أَيِ: اسْمًا مُضْمَرًا لِتُخْبِرَنِي بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا امْتَحَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; لِيُظْهِرَ إِبْطَالَ حَالِهِ لِلصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيُلْقِي عَلَى لِسَانِهِ، (وَخَبَّأَ لَهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: ١٠] ، الْجُمْلَةُ حَالٌ بِتَقْدِيرٍ أَوْ بِدُونِهِ (فَقَالَ: " هُوَ الدُّخُّ ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ، وَحُكِيَ الْكَسْرُ أَيْضًا، فَفِي النِّهَايَةِ: الدُّخُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا الدُّخَانُ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: ١٠] ، وَقِيلَ إِنَّ عِيسَى يَقْتُلُ الدَّجَّالَ بِجَبَلِ الدُّخَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُ تَعْرِيضًا لِقَتْلِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّخُّ وَيُضَمُّ الدُّخَانُ. أَقُولُ: وَلَوْ رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي أَنَّهُ رَمْزٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى الدُّخَانِ وَتَصْرِيحٌ بِنُقْصَانِ إِدْرَاكِهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكُهَّانِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>