قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ جَوَازُ كَشْفِ أَحْوَالِ مَا يُخَافُ مَفْسَدَتُهُ وَكَشْفِ الْأُمُورِ الْمُبْهَمَةِ بِنَفْسِهِ، (وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ) أَيْ: دِثَارٍ مُخَمَّلٍ، وَقِيلَ لِحَافٍ صَغِيرٍ، (لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ) .
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِرَائَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ صَوْتٌ خَفِيٌّ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ أَوْ لَا يُفْهَمُ. قَالَ شَارِحٌ: هِيَ صَوْتٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صَوْتُ الرَّعْدِ. (فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ. فَقَالَتْ: أَيْ) : لِلنِّدَاءِ (صَافُ -) : بِالضَّمِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ صَافِي، فَحُذِفَ الْيَاءُ وَاكْتُفِيَ بِالْكَسْرَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: (وَهُوَ اسْمُهُ -) : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنْ نَحْوِ اللَّقَبِ وَالْعَلَمِ (هَذَا) أَيْ: وَرَاءَكَ (مُحَمَّدٌ) ، أَوْ جَاءَكَ فَتَنَبَّهْ لَهُ، (فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ) أَيِ: انْتَهَى عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الزَّمْزَمَةِ وَسَكَتَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ تَرَكَتْهُ ") أَيْ: أَمُّهُ (" بَيَّنَ ") أَيْ أَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ بِاخْتِلَافِ كَلَامِهِ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْكُمْ شَأْنَهُ.
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ مَا سَيَأْتِي حَدِيثٌ آخَرُ ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا ; وَلِذَا لَمْ يَأْتِ بِعَاطِفَةٍ، وَقَالَ: (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ") أَيْ: بَعْدَ نُوحٍ، (" لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ ") أَيْ: قَبْلَ الْأَنْبِيَاءِ، (" وَلَكِنَّنِي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ ") : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ: اعْلَمُوا (" أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ ") : بِالْفَتْحِ لِلْعَطْفِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ (" لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") أَيْ: لَا بِالْأَمْرِ الْبَدِيهِيِّ فِي التَّنْزِيهِ الْإِلَهِيِّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُكَاشَفْ أَوْ يُخْبَرْ بِأَنَّهُ أَعْوَرُ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُ أُخْبِرَ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ كَرَامَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ بِهَذَا الْوَصْفِ دُحُوضَ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ وَيُبَصِّرُ بِأَمْرِهِ جُهَّالَ الْعَوَامِّ، فَضْلًا عَنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَالْأَفْهَامِ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: قِصَّتُهُ مُشْكِلَةٌ، وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ أَمْ غَيْرُهُ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ. قَالُوا: وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ لِابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمِلَةٌ ; فَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يُولَدُ الدَّجَّالُ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَابْنُ صَيَّادٍ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَكَّةَ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهِ وَقْتَ فِتْنَتِهِ وَخُرُوجِهِ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَمْرِهِ بَعْدَ كِبَرِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ كَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، وَقِيلَ لَهُمْ: اشْهَدُوا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ يَحْلِفَانِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ لَا يَشُكَّانِ فِيهِ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: إِنَّهُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: وَإِنْ دَخَلَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ جَابِرًا حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَأَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَحْلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute